رجال حول الرسول(صلى الله عليه وسلم)
2 مشترك
صفحة 2 من اصل 2
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
رد: رجال حول الرسول(صلى الله عليه وسلم)
بلال بن رباح مؤاذن الرسول صلى الله عليه وسلم
انه 'بلال بن رباح' مؤذن الاسلام، ومزعج الأصنام..
انه احدى معجزات الايمان والصدق.
احدى معجزات الاسلام العظيم..
في كل عشرة مسلمين. منذ بدأ الاسلام الى اليوم، والى ما شاء الله سنلتقي
بسبعة على الأقل يعرفون بلالا..
أي أن هناك مئات الملايين من البشر عبر القرون والأجيال عرفوا بلالا،
وحفظوا اسمه، وعرفوا دوره. تماما كما عرفوا أعظم خليفتين في الاسلام: أبي
بكر وعمر...!!
وانك لتسأل الطفل الذي لا يزال يحبو في سنوات دراسته الأولى في مصر، أ،
باكستان، أ، الصين..
وفي الأمريكيتين، وأوروبا وروسيا..
وفي تاعراق ، وسوريا، وايران والسودان..
في تونس والمغرب والجزائر..
في أعماق أفريقيا، وفوق هضاب آسيا..
في كل يقعة من الأرض يقتنها مسلمون، تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم: من بلال
يا غلام؟
فيجيبك: انه مؤذن الرسول.. وانه العبد الذي كان سيّده يعذبه بالحجارة
المستعرّة ليردّه عن دينه، فيقول:
'أحد.. أحد..'
وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الاسلام بلالا.. فاعلم أن بلال هذا، لم
يكن قبل الاسلام أكثر من عبد رقيق، يرعى ابل سيّده على حفنات من التمر، حتى
يطو به الموت، ويطوّح به الى أعماق النسيان..
لكن صدق ايمانه، وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته، وفي تاريخه مكانا
عليّا في الاسلام بين العظماء والشرفاء والكرماء...
ان كثيرا من عليّة البشر، وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم، لم يظفروا
بمعشار الخلود الذي ظفر به بلال العبد الحبشي..!!
بل ان كثيرا من أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله
بلال..
ان سواد بشرته، وتواضع حسبه ونسبه، وهوانه على الانس كعبد رقيق، لم يحرمه
حين آثر الاسلام دينا، من أن يتبوأ المكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه
ويقينه، وطهره، وتفانيه..
ان ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب، الا حساب الدهشة
حين توجد العظمة في غير مظانها..
فلقد كان الناس يظنون أن عبدا مثل بلال، ينتمي الى أصول غريبة.. ليس له
أهل، ولا حول، ولا يملك من حياته شيئا، فهو ملك لسيّده الذي اشتراه بماله..
يروح ويغدو وسط شويهات سيده وابله وماشيته..
كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن، لا يمكن أن يقدر على شيء ولا أن يكون
شيئا..
ثم اذا هو يخلف الظنون جميعا، فيقدر على ايمان، هيهات أن يقدر على مثله
سواه.. ثم يكون أول مؤذن للرسول والاسلام العمل الذي كان يتمناه لنفسه كل
سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا الرسول..!!
أجل.. بلال بن رباح!
أيّة بطولة.. وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلاث بلال ابن رباح..؟!
**
انه حبشي من أمة السود... جعلته مقاديره عبدا لأناس من بني جمح بمكة، حيث
كانت أمه احدى امائهم وجواريهم..
كان يعيش عيشة الرقيق، تمضي أيامه متشابهة قاحلة، لا حق له في يومه، ولا
أمل له في غده..!!
ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه، حين أخذ الانس في مكة يتناقلونها، وحين
كان يصغي الى أحاديث ساداته وأضيافهم، سيما 'أمية بن خلف' أحد شيوخ بني جمح
القبيلة التي كان بلال أحد عبيدها..
لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا، وأفراد قبيلته أحيانا عن
الرسول حديثا يطفح غيظا، وغمّا وشرا..
وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون، الصفات التي تصور له هذا
الدين الجديد.. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها..
كما كانت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف
محمد وصدقه وأمانته..!!
أجل انه ليسمعهم يعجبون، ويحارون، في هذا الذي جاء به محمد..!!
ويقول بعضهم لبعض: ما كان محمد يوما كاذبا. ولا ساحرا..ولا مجنونا.. وان ام
يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله، حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون الى
دينه..!!
سمعهم يتحدّثون عن أمانته..
عن وفائه..
عن رجولته وخلقه..
عن نزاهته ورجاحة عقله..
وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحديّ وعداوته، تلك هي: ولاؤهم
لدين آبائهم أولا. والخوف على مجد قريش ثانيا، ذلك المجد الذي يفيئه عليها
مركزها الديني، كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها، ثم الحقد على
بني هاشم، أن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول...!
**
وذات يوم يبصر بلال ب رباح نور الله، ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه،
فيذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلم..
ولا يلبث خبر اسلامه أن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك
الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور..!! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر
أميّة بن خلف الذي رأى في اسلام عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي
والعار..
عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد..؟!
ويقول أميّة لنفسه: ومع هذا فلا بأس.. ان شمس هذا اليوم لن تغرب الا ويغرب
معها اسلام هذا العبد الآبق..!!
ولكن الشمس لم تغرب قط باسلام بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها،
وحماة الوثنية فيها...!
**
أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا للاسلام وحده، وان كان الاسلام أحق به،
ولكنه شرف للانسانية جميعا..
لقد صمد لأقسى الوان التعذيب صمود البرار العظام.
ولكأنما جعله الله مثلا على أن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من
عظمة الروح اذا وجدت ايمانها، واعتصمت بباريها، وتشبثت بحقها..
لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين في زمانه، وفي كل مان، للذين على دينه وعلى
كل دين.. درسا فحواه أن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا،
ولا بملئها عذابا..
لقد وضع عريانا فوق الجمر، على أن يزيغ عن دينه، أو يزيف اقتناعه فأبى..
لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام، والاسلام، من هذا العبد الحبشي
المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير، والدفاع عن حريته
وسيادته..
لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة..
فيطرحونه على حصاها الماتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله
من مكانه بضعة رجال، ويلقون به فوق جسده وصدره..
ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب
جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله، على أن يذكر آلهتهم بخير ولو
بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم، ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام
صمود عبدهم واصراره..
ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه،
ويشتري بها حياته نفسه، دون أن يفقد ايمانه، ويتخلى عن اقتناعه..
حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال أن يقولها..!
نعم لقد رفض أن يقولها، وصار يردد مكانها نشيده الخالد:'أحد أحد'
يقولون له: قل كما نقول..
فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية:
'ان لساني لا يحسنه'..!!
ويظل بلال في ذوب الحميم وصخره، حتى اذا حان الأصيل أقاموه، وجعلوا في عنقه
حبلا، ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها. وبلال لا يلهج
لسانه بغير نشيده المقدس:' أحد أحد'.
وكأني اذا جنّ عليهم الليل يساومونه:
غدا قل كلمات خير في آلهتنا، قل ربي اللات والعزى، لنذرك وشأتك، فقد تعبنا
من تعذيبك، حتى لكأننا نحن المعذبون!
فيهز رأسه ويقول:' أحد.. أحد..'.
ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمّا وغيظا، ويصيح: أي شؤم رمانا بك يا عبد
السوء..؟واللات والعزى لأجعلنك للعبيد والسادة مثلا.
ويجيب بلال في يقين المؤمن وعظمة القديس:
'أحد.. أحد..'
ويعود للحديث والمساومة، من وكل اليه تمثيل دور المشفق عليه، فيقول:
خل عنك يا أميّة.. واللات لن يعذب بعد اليوم، ان بلالا منا أمه جاريتنا،
وانه لن يرضى أن يجعلنا باسلامه حديث قريش وسخريّتها..
ويحدّق بلال في الوجوه الكاذبة الماكرة، ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر،
ويقول في هدوء يزلزلهم زلزالا:
'أحد.. أحد..'
وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة، ويؤخذ بلال الى الرمضاء، وهو صابر محتسب،
صامد ثابت.
ويذهب اليهم أبو بكر الصديق وهو يعذبونه، ويصيح بهم:
(أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)؟؟
ثم يصيح في أميّة بن خلف: خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا..
وكأنما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة..
لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره اذ كان اليأس من
تطويع لال قد بلغ في في نفوسهم أشده، ولأنهم كانوا من التجار، فقد أردكوا
أن بيعه أربح لهم من موته..
باعوه لأبي بكر الذي حرّره من فوره، وأخذ بلال مكانه بين الرجال الأحرار...
وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به الى الحرية قال له أمية:
خذه، فواللات والعزى، لو أبيت الا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها..
وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا
بألا يجيبه..
ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له، وندّا،أجاب أمية
قائلا:
والله لو أبيتم أنتم الا مائة أوقية لدفعتها..!!
وانطلق بصاحبه الى رسول الله يبشره بتحريره.. وكان عيدا عظيما!
وبعد هجرة الرسول والمسلمين الى المدينة، واستقرارهم بها، يشرّع الرسول
للصلاة أذانها..
فمن يكون المؤذن للصلاة خمس مرات كل يوم..؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته
وتهليلاته..؟
انه بلال.. الذي صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: 'الله
أحد..أحد'.
لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن للاسلام.
وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ الأفئدة ايمانا، والأسماع روعة وهو ينادى:
الله أكبر.. الله أكبر
الله أكبر .. الله أكبر
أشهد أن لااله الا الله
أشهد أن لا اله الا الله
أشهد أن محمدا رسول الله
أشهد أن محمدا رسول الله
حي على الصلاة
حي على الصلاة
حي على الفلاح
حي على الفلاح
الله أكبر.. الله أكبر
لااله الا الله...
ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم الى المدينة غازيا..
وتدور الحرب عنيفة قاسية ضارية..وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها
الاسلام، غزوة بدر.. تلك الغزوة التي أمر الرسول عليه السلام أن يكون
شعارها: 'أحد..أحد'.
**
في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلاذ أكبادها، وخرج أشرافها جميعا لمصارعهم..!!
ولقد همّ بالنكوص عن الخروج 'أمية بن خلف' .. هذا الذي كان سيدا لبلال،
والذي كان يعذبه في وحشيّة قاتلة..
همّ بالنكوص لولا أن ذهب اليه صديقه 'عقبة بن أبي معيط' حين علم عن نبأ
تخاذله وتقاعسه، حاملا في يمينه مجمرة حتى اذا واجهه وهو جالس وسط قومه،
ألقى الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي، استجمر بهبذ، فانما أنت من
النساء..!!!
وصاح به أمية قائلا: قبحك الله، وقبّح ما جئت به..
ثم لم يجد بدّا من الخروج مع الغزاة فخرج..
أيّة أسرار للقدر، يطويها وينشرها..؟
لقد كان عقبة بن أبي معيط أكبر مشجع لأمية على تعذيب بلال، وغير بلال من
المسلمين المستضعفين..
واليوم هو نفسه الذي يغريه بالخروج الى غزوة بدر التي سيكون فيها مصرعه..!!
كما سيكون فيها مصرع عقبة أيضا!
لقد كان أمية من القاعدين عن الحرب.. ولولا تشهير عقبة به على هذا النحو
الذي رأيناه لما خرج..!!
ولكن الله بالغ أمره، فليخرج أمية فان بينه وبين عبد من عباد الله حسابا
قديما، جاء أوان تصفيته، فالديّان لا يموت، وكما تدينون تدانون..!!
وان القدر ليحلو له أن يسخر بالجبارين.. فعقبة الذي كان أمية يصغي لتحريضه،
ويسارع اى هواه في تعذيب المؤمنين الأبرياء، هو نفسه الذب سيقود أميّة الى
مصرعه..
وبيد من..؟
بيد بلال نفسه.. وبلال وحده!!
نفس اليد التي طوّقها أميّة بالسلاسل، وأوجع صاحبها ضربا، وعذابا..
مع هذه اليد ذاتها، هي اليوم، وفي غزوة بدر، على موعد أجاد القدر توقيته،
مع جلاد قريش الذي أذل المؤمنين بغيا وعدوا..
ولقد حدث هذا تماما..
وحين بدأ القتال بين الفريقين، وارتج جانب المعركة من قبل المسلمين
بشعارهم:' أحد.. أحد' انخلع قلب أمية، وجاءه النذير..
ان الكلمة التي كان يرددها بالأمس عبد تحت وقع العذاب والهول قد صارت اليوم
شعار دين بأسره وشعار الأمة الجديدة كلها..!!
'أحد..أحد'؟؟!!
أهكذا..؟ وبهذه السرعة.. وهذا النمو العظيم..؟؟
**
وتلاحمت السيوف وحمي القتال..
وبينما المعركة تقترب من نهايتها، لمح أمية بن خلف' عبد الرحمن بن عوف'
صاحب رسول الله، فاحتمى به، وطلب اليه أن يكون أسيره رجاء أن يخلص بحياته..
وقبل عبد الرحمن عرضه وأجاره، ثم سار به وسط العمعمة الى مكان السرى.
وفي الطريق لمح بلال فصاح قائلا:
'رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا نجوت ان نجا'.
ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي لطالما أثقله الغرور والكبر، فصاح به عبد
الرحمن بن عوف:
'أي بلال.. انه أسيري'.
أسير والحرب مشبوبة دائرة..؟
أسير وسيفه يقطر دما مما كان يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين..؟
لا.. ذلك في رأي بلال ضحك بالعقول وسخرية.. ولقد ضحك أمية وسخر بما فيه
الكفاية..
سخر حتى لم يترك من السخرية بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم، وهذا المأزق،
وهذا المصير..!!
ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين عبد الرحمن بن
عوف، فصاح بأعلى صوته في المسلمين:
'يا أنصار الله.. رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت ان نجا'...!
وأقبلت كوكبة من المسلمين تقطر سيوفهم المنايا، وأحاطت بأمية وابنه ولم
يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئا.. بل لم يستطع أن يحمي أذراعه التي
بددها الزحتم.
وألقى بلال على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة، ثم
هرول عنه مسرعا وصوته النديّ يصيح:
'أحد.. أحد..'
**
لا أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلال في مثل هذا المقام..
فلو أن اللقاء بين بلال وأمية تمّ في ظروف أخرى، لجازنا أن نسال بلالا حق
التسامح، وما كان لرجل في مثل ايمانه وتقاه أن يبخل به.
لكن اللقاء الذي تم بينهما، كان في حرب، جاءها كل فريق ليفني غريمه..
السيوف تتوهج.. والقتلى يسقطون.. والمنايا تتواثب، ثم يبصر بلال أمية الذي
لم يترك في جسده موضع أنملة الا ويحمل آثار تعذيب.
وأين يبصره وكيف..؟
يبصره في ساحة الحرب والقتال يحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين، ولو
أدرك رأس بلال ساعتئذ لطوّح به..
في ظروف كهذه يلتقي الرجلان فيها، لا يكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل
بلالا: لماذا لم يصفح الصفح الجميل..؟؟
**
وتمضي الأيام وتفتح مكة..
ويدخلها الرسول شاكرا مكبرا على رأس عشرة آلاف من المسلمين..
ويتوجه الى الكعبة رأسا.. هذا المكان المقدس الذي زحمته قريش بعدد أيام
السنة من الأصنام..!!
لقد جاء الحق وزهق الباطل..
ومن اليوم لا عزى.. ولا لات.. ولا هبل.. لن يجني الانسان بعد اليوم هامته
لحجر، ولا وثن.. ولن يعبد الناس ملء ضمائرهم الا الله الي ليس كمثله شيء،
الواحد الأحد، الكبير المتعال..
ويدخل الرسول الكعبة، مصطحبا معه بلال..!
ولا يكاد يدخلها حتى يواجه تمثالا منحوتا، يمثل ابراهيم عليه السلام وهو
يستقسم بالأزلام، فيغضب الرسول ويقول:
'قاتلهم الله..
ما كان شيخنا يستقسم بالأزلام.. ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن
كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين'.
ويأمر بلال أن يعلو ظهر المسجد، ويؤذن.
ويؤذن بلال.. فيالروعة الزمان، واملكان، والمناسبة..!!
كفت الحياة في مكة عن الحركة، ووقفت الألوف المسلمة كالنسمة الساكنة، تردد
في خشوع وهمس كلمات الآذان ورء بلال.
والمشركون في بيوتهم لا يكادون يصدقون:
أهذا هو محمد وفقراؤه الذين أخرجوا بالأمس من هذا الديار..؟؟
أهذا هو حقا، ومعه عشرة آلاف من المؤمنين..؟؟
أهذا هو حقا الذي قاتلناه، وطاردنبه، وقتلنا أحب الناس اليه..؟
أهذا هو حقا الذي كان يخاطبنا من لحظات ورقابنا بين يديه، ويقول لنا:
'اذهبوا فأنتم الطلقاء'..!!
ولكن ثلاثة من أشراف قريش، كانوا جلوسا بفناء الكعبة، وكأنما يلفحهم مشهد
بلال وهو يدوس أصنامهم بقدميه، ويرسل من فوق ركامها المهيل صوته بالأذان
المنتشر في آفاق مكة كلها كعبير الربيع..
أما هؤلاء الثلاثة فهم، أبوسفيان بن حرب، وكان قد أسلم منذ ساعات، وعتّاب
بن أسيد، والحارث بن هشام، وكانا لم يسلما بعد.
قال عتاب وعينه على بلال وهو يصدح بأذانه:
لقد أكرم الله اسيدا، ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث:
أما والله لو أعلم أن محمدا محق لاتبعته..!!
وعقب أبو سفيان الداهية على حديثهما قائلا:
اني لا أقول شيئا، فلو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى!! وحين غادر النبي
الكعبة رآهم، وقرأ وجوههم في لحظة، قال وعيناه تتألقان بنور الله، وفرحة
النصر:
قد علمت الذي قلتم..!!!
ومضى يحدثهم بما قالوا..
فصاح الحارث وعتاب:
نشهد أنك رسول الله، والله ما سمعنا أحد فنقول أخبرك..!!
واستقبلا بلال بقلوب جديدة..في أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب
الرسول أول دخول مكة:
' يامعشر قريش..
ان الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء..
الناس من آدم وآدم من تراب'..
**
وعاش بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشهد معه المشاهد كلها، يؤذن
للصلاة، ويحيي ويحمي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات الى
النور، ومن الرق الى الحريّة..
وعلا شأن الاسلام، وعلا معه شأن المسلمين، وكان بلال يزداد كل يوم قربا من
قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يصفه بأنه:' رجل من أهل
الجنة'..
لكن بلالا بقي كما هو كريما متواضعا، لا يرى نفسه الا أنه:' الحبشي الذي
كان بالأمس عبدا'..!!
ذهب يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما:
'أنا بلال، هذا أخي عبدان من الحبشة.. كنا ضالين فهدانا الله.. ومنا عبدين
فأعتقنا الله.. ان تزوّجونا فالحمد لله.. وان تمنعونا فالله أكبر..'!!
**
وذهب الرسول الى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا، ونهض بأمر المسلمين من بعده
خليفته أبو بكر الصديق..
وذهب بلال الى خليفة رسول الله يقول له:
' يا خليفة رسول الله..
اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أفضل عمل لبمؤمن الجهاد في
سبيل الله'..
فقال له أبو بكر: فما تشاء يا بلال..؟
قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتىأموت..
قال أبو بكر ومن يؤذن لنا؟
قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع، اني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله.
قال أبو بكر: بل ابق وأذن لنا يا بلال..
قال بلال: ان كنت أعتقتني لأكون لك فليكن لك ما تريد. وان كنت أعتقتني لله
فدعني وما أعتقتني له..
قالأبو بكر: بل أعتقتك لله يا بلال..
ويختلف الرواة، فيروي بعضهم أنه سافر الى الشام حيث بقي فيها مجاهدا
مرابطا.
ويروي بعضهم الآخر، أنه قبل رجاء أبي بكر في أن يبقى معه بالمدينة، فلما
قبض وولي عمر الخلافة استأذنه وخرج الى الشام.
على أية حال، فقد نذر بلال بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور الاسلام،
مصمما أن يلقى الله ورسوله وهو على خير عمل يحبانه.
ولم يعد يصدح بالأذان بصوته الشجي الحفيّ المهيب، ذلك أنه لم ينطق في أذانه
'أشهد أن محمدا رسول الله' حتى تجيش به الذمؤيات فيختفي صوته تحت وقع
أساه، وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته.
وكان آخر أذان له أيام زار أمير المؤمنين عمر وتوسل المسلمون اليه أن يحمل
بلالا على أن يؤذن لهم صلاة واحدة.
ودعا أمير المؤمنين بلال، وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها.
وصعد بلال وأذن.. فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذن
له.. بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا.. وكان عمر أشدهم بكاء..!!
**
ومات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما أراد.
وتحت ثرى دمشق يثوي اليوم رفات رجل من أعظم رجال البشر صلابة في الوقوف الى
جانب العقيدة والاقتناع .
انه 'بلال بن رباح' مؤذن الاسلام، ومزعج الأصنام..
انه احدى معجزات الايمان والصدق.
احدى معجزات الاسلام العظيم..
في كل عشرة مسلمين. منذ بدأ الاسلام الى اليوم، والى ما شاء الله سنلتقي
بسبعة على الأقل يعرفون بلالا..
أي أن هناك مئات الملايين من البشر عبر القرون والأجيال عرفوا بلالا،
وحفظوا اسمه، وعرفوا دوره. تماما كما عرفوا أعظم خليفتين في الاسلام: أبي
بكر وعمر...!!
وانك لتسأل الطفل الذي لا يزال يحبو في سنوات دراسته الأولى في مصر، أ،
باكستان، أ، الصين..
وفي الأمريكيتين، وأوروبا وروسيا..
وفي تاعراق ، وسوريا، وايران والسودان..
في تونس والمغرب والجزائر..
في أعماق أفريقيا، وفوق هضاب آسيا..
في كل يقعة من الأرض يقتنها مسلمون، تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم: من بلال
يا غلام؟
فيجيبك: انه مؤذن الرسول.. وانه العبد الذي كان سيّده يعذبه بالحجارة
المستعرّة ليردّه عن دينه، فيقول:
'أحد.. أحد..'
وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الاسلام بلالا.. فاعلم أن بلال هذا، لم
يكن قبل الاسلام أكثر من عبد رقيق، يرعى ابل سيّده على حفنات من التمر، حتى
يطو به الموت، ويطوّح به الى أعماق النسيان..
لكن صدق ايمانه، وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته، وفي تاريخه مكانا
عليّا في الاسلام بين العظماء والشرفاء والكرماء...
ان كثيرا من عليّة البشر، وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم، لم يظفروا
بمعشار الخلود الذي ظفر به بلال العبد الحبشي..!!
بل ان كثيرا من أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله
بلال..
ان سواد بشرته، وتواضع حسبه ونسبه، وهوانه على الانس كعبد رقيق، لم يحرمه
حين آثر الاسلام دينا، من أن يتبوأ المكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه
ويقينه، وطهره، وتفانيه..
ان ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب، الا حساب الدهشة
حين توجد العظمة في غير مظانها..
فلقد كان الناس يظنون أن عبدا مثل بلال، ينتمي الى أصول غريبة.. ليس له
أهل، ولا حول، ولا يملك من حياته شيئا، فهو ملك لسيّده الذي اشتراه بماله..
يروح ويغدو وسط شويهات سيده وابله وماشيته..
كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن، لا يمكن أن يقدر على شيء ولا أن يكون
شيئا..
ثم اذا هو يخلف الظنون جميعا، فيقدر على ايمان، هيهات أن يقدر على مثله
سواه.. ثم يكون أول مؤذن للرسول والاسلام العمل الذي كان يتمناه لنفسه كل
سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا الرسول..!!
أجل.. بلال بن رباح!
أيّة بطولة.. وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلاث بلال ابن رباح..؟!
**
انه حبشي من أمة السود... جعلته مقاديره عبدا لأناس من بني جمح بمكة، حيث
كانت أمه احدى امائهم وجواريهم..
كان يعيش عيشة الرقيق، تمضي أيامه متشابهة قاحلة، لا حق له في يومه، ولا
أمل له في غده..!!
ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه، حين أخذ الانس في مكة يتناقلونها، وحين
كان يصغي الى أحاديث ساداته وأضيافهم، سيما 'أمية بن خلف' أحد شيوخ بني جمح
القبيلة التي كان بلال أحد عبيدها..
لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا، وأفراد قبيلته أحيانا عن
الرسول حديثا يطفح غيظا، وغمّا وشرا..
وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون، الصفات التي تصور له هذا
الدين الجديد.. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها..
كما كانت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف
محمد وصدقه وأمانته..!!
أجل انه ليسمعهم يعجبون، ويحارون، في هذا الذي جاء به محمد..!!
ويقول بعضهم لبعض: ما كان محمد يوما كاذبا. ولا ساحرا..ولا مجنونا.. وان ام
يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله، حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون الى
دينه..!!
سمعهم يتحدّثون عن أمانته..
عن وفائه..
عن رجولته وخلقه..
عن نزاهته ورجاحة عقله..
وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحديّ وعداوته، تلك هي: ولاؤهم
لدين آبائهم أولا. والخوف على مجد قريش ثانيا، ذلك المجد الذي يفيئه عليها
مركزها الديني، كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها، ثم الحقد على
بني هاشم، أن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول...!
**
وذات يوم يبصر بلال ب رباح نور الله، ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه،
فيذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلم..
ولا يلبث خبر اسلامه أن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك
الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور..!! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر
أميّة بن خلف الذي رأى في اسلام عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي
والعار..
عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد..؟!
ويقول أميّة لنفسه: ومع هذا فلا بأس.. ان شمس هذا اليوم لن تغرب الا ويغرب
معها اسلام هذا العبد الآبق..!!
ولكن الشمس لم تغرب قط باسلام بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها،
وحماة الوثنية فيها...!
**
أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا للاسلام وحده، وان كان الاسلام أحق به،
ولكنه شرف للانسانية جميعا..
لقد صمد لأقسى الوان التعذيب صمود البرار العظام.
ولكأنما جعله الله مثلا على أن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من
عظمة الروح اذا وجدت ايمانها، واعتصمت بباريها، وتشبثت بحقها..
لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين في زمانه، وفي كل مان، للذين على دينه وعلى
كل دين.. درسا فحواه أن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا،
ولا بملئها عذابا..
لقد وضع عريانا فوق الجمر، على أن يزيغ عن دينه، أو يزيف اقتناعه فأبى..
لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام، والاسلام، من هذا العبد الحبشي
المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير، والدفاع عن حريته
وسيادته..
لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة..
فيطرحونه على حصاها الماتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله
من مكانه بضعة رجال، ويلقون به فوق جسده وصدره..
ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب
جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله، على أن يذكر آلهتهم بخير ولو
بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم، ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام
صمود عبدهم واصراره..
ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه،
ويشتري بها حياته نفسه، دون أن يفقد ايمانه، ويتخلى عن اقتناعه..
حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال أن يقولها..!
نعم لقد رفض أن يقولها، وصار يردد مكانها نشيده الخالد:'أحد أحد'
يقولون له: قل كما نقول..
فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية:
'ان لساني لا يحسنه'..!!
ويظل بلال في ذوب الحميم وصخره، حتى اذا حان الأصيل أقاموه، وجعلوا في عنقه
حبلا، ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها. وبلال لا يلهج
لسانه بغير نشيده المقدس:' أحد أحد'.
وكأني اذا جنّ عليهم الليل يساومونه:
غدا قل كلمات خير في آلهتنا، قل ربي اللات والعزى، لنذرك وشأتك، فقد تعبنا
من تعذيبك، حتى لكأننا نحن المعذبون!
فيهز رأسه ويقول:' أحد.. أحد..'.
ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمّا وغيظا، ويصيح: أي شؤم رمانا بك يا عبد
السوء..؟واللات والعزى لأجعلنك للعبيد والسادة مثلا.
ويجيب بلال في يقين المؤمن وعظمة القديس:
'أحد.. أحد..'
ويعود للحديث والمساومة، من وكل اليه تمثيل دور المشفق عليه، فيقول:
خل عنك يا أميّة.. واللات لن يعذب بعد اليوم، ان بلالا منا أمه جاريتنا،
وانه لن يرضى أن يجعلنا باسلامه حديث قريش وسخريّتها..
ويحدّق بلال في الوجوه الكاذبة الماكرة، ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر،
ويقول في هدوء يزلزلهم زلزالا:
'أحد.. أحد..'
وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة، ويؤخذ بلال الى الرمضاء، وهو صابر محتسب،
صامد ثابت.
ويذهب اليهم أبو بكر الصديق وهو يعذبونه، ويصيح بهم:
(أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)؟؟
ثم يصيح في أميّة بن خلف: خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا..
وكأنما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة..
لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره اذ كان اليأس من
تطويع لال قد بلغ في في نفوسهم أشده، ولأنهم كانوا من التجار، فقد أردكوا
أن بيعه أربح لهم من موته..
باعوه لأبي بكر الذي حرّره من فوره، وأخذ بلال مكانه بين الرجال الأحرار...
وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به الى الحرية قال له أمية:
خذه، فواللات والعزى، لو أبيت الا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها..
وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا
بألا يجيبه..
ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له، وندّا،أجاب أمية
قائلا:
والله لو أبيتم أنتم الا مائة أوقية لدفعتها..!!
وانطلق بصاحبه الى رسول الله يبشره بتحريره.. وكان عيدا عظيما!
وبعد هجرة الرسول والمسلمين الى المدينة، واستقرارهم بها، يشرّع الرسول
للصلاة أذانها..
فمن يكون المؤذن للصلاة خمس مرات كل يوم..؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته
وتهليلاته..؟
انه بلال.. الذي صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: 'الله
أحد..أحد'.
لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن للاسلام.
وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ الأفئدة ايمانا، والأسماع روعة وهو ينادى:
الله أكبر.. الله أكبر
الله أكبر .. الله أكبر
أشهد أن لااله الا الله
أشهد أن لا اله الا الله
أشهد أن محمدا رسول الله
أشهد أن محمدا رسول الله
حي على الصلاة
حي على الصلاة
حي على الفلاح
حي على الفلاح
الله أكبر.. الله أكبر
لااله الا الله...
ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم الى المدينة غازيا..
وتدور الحرب عنيفة قاسية ضارية..وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها
الاسلام، غزوة بدر.. تلك الغزوة التي أمر الرسول عليه السلام أن يكون
شعارها: 'أحد..أحد'.
**
في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلاذ أكبادها، وخرج أشرافها جميعا لمصارعهم..!!
ولقد همّ بالنكوص عن الخروج 'أمية بن خلف' .. هذا الذي كان سيدا لبلال،
والذي كان يعذبه في وحشيّة قاتلة..
همّ بالنكوص لولا أن ذهب اليه صديقه 'عقبة بن أبي معيط' حين علم عن نبأ
تخاذله وتقاعسه، حاملا في يمينه مجمرة حتى اذا واجهه وهو جالس وسط قومه،
ألقى الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي، استجمر بهبذ، فانما أنت من
النساء..!!!
وصاح به أمية قائلا: قبحك الله، وقبّح ما جئت به..
ثم لم يجد بدّا من الخروج مع الغزاة فخرج..
أيّة أسرار للقدر، يطويها وينشرها..؟
لقد كان عقبة بن أبي معيط أكبر مشجع لأمية على تعذيب بلال، وغير بلال من
المسلمين المستضعفين..
واليوم هو نفسه الذي يغريه بالخروج الى غزوة بدر التي سيكون فيها مصرعه..!!
كما سيكون فيها مصرع عقبة أيضا!
لقد كان أمية من القاعدين عن الحرب.. ولولا تشهير عقبة به على هذا النحو
الذي رأيناه لما خرج..!!
ولكن الله بالغ أمره، فليخرج أمية فان بينه وبين عبد من عباد الله حسابا
قديما، جاء أوان تصفيته، فالديّان لا يموت، وكما تدينون تدانون..!!
وان القدر ليحلو له أن يسخر بالجبارين.. فعقبة الذي كان أمية يصغي لتحريضه،
ويسارع اى هواه في تعذيب المؤمنين الأبرياء، هو نفسه الذب سيقود أميّة الى
مصرعه..
وبيد من..؟
بيد بلال نفسه.. وبلال وحده!!
نفس اليد التي طوّقها أميّة بالسلاسل، وأوجع صاحبها ضربا، وعذابا..
مع هذه اليد ذاتها، هي اليوم، وفي غزوة بدر، على موعد أجاد القدر توقيته،
مع جلاد قريش الذي أذل المؤمنين بغيا وعدوا..
ولقد حدث هذا تماما..
وحين بدأ القتال بين الفريقين، وارتج جانب المعركة من قبل المسلمين
بشعارهم:' أحد.. أحد' انخلع قلب أمية، وجاءه النذير..
ان الكلمة التي كان يرددها بالأمس عبد تحت وقع العذاب والهول قد صارت اليوم
شعار دين بأسره وشعار الأمة الجديدة كلها..!!
'أحد..أحد'؟؟!!
أهكذا..؟ وبهذه السرعة.. وهذا النمو العظيم..؟؟
**
وتلاحمت السيوف وحمي القتال..
وبينما المعركة تقترب من نهايتها، لمح أمية بن خلف' عبد الرحمن بن عوف'
صاحب رسول الله، فاحتمى به، وطلب اليه أن يكون أسيره رجاء أن يخلص بحياته..
وقبل عبد الرحمن عرضه وأجاره، ثم سار به وسط العمعمة الى مكان السرى.
وفي الطريق لمح بلال فصاح قائلا:
'رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا نجوت ان نجا'.
ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي لطالما أثقله الغرور والكبر، فصاح به عبد
الرحمن بن عوف:
'أي بلال.. انه أسيري'.
أسير والحرب مشبوبة دائرة..؟
أسير وسيفه يقطر دما مما كان يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين..؟
لا.. ذلك في رأي بلال ضحك بالعقول وسخرية.. ولقد ضحك أمية وسخر بما فيه
الكفاية..
سخر حتى لم يترك من السخرية بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم، وهذا المأزق،
وهذا المصير..!!
ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين عبد الرحمن بن
عوف، فصاح بأعلى صوته في المسلمين:
'يا أنصار الله.. رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت ان نجا'...!
وأقبلت كوكبة من المسلمين تقطر سيوفهم المنايا، وأحاطت بأمية وابنه ولم
يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئا.. بل لم يستطع أن يحمي أذراعه التي
بددها الزحتم.
وألقى بلال على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة، ثم
هرول عنه مسرعا وصوته النديّ يصيح:
'أحد.. أحد..'
**
لا أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلال في مثل هذا المقام..
فلو أن اللقاء بين بلال وأمية تمّ في ظروف أخرى، لجازنا أن نسال بلالا حق
التسامح، وما كان لرجل في مثل ايمانه وتقاه أن يبخل به.
لكن اللقاء الذي تم بينهما، كان في حرب، جاءها كل فريق ليفني غريمه..
السيوف تتوهج.. والقتلى يسقطون.. والمنايا تتواثب، ثم يبصر بلال أمية الذي
لم يترك في جسده موضع أنملة الا ويحمل آثار تعذيب.
وأين يبصره وكيف..؟
يبصره في ساحة الحرب والقتال يحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين، ولو
أدرك رأس بلال ساعتئذ لطوّح به..
في ظروف كهذه يلتقي الرجلان فيها، لا يكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل
بلالا: لماذا لم يصفح الصفح الجميل..؟؟
**
وتمضي الأيام وتفتح مكة..
ويدخلها الرسول شاكرا مكبرا على رأس عشرة آلاف من المسلمين..
ويتوجه الى الكعبة رأسا.. هذا المكان المقدس الذي زحمته قريش بعدد أيام
السنة من الأصنام..!!
لقد جاء الحق وزهق الباطل..
ومن اليوم لا عزى.. ولا لات.. ولا هبل.. لن يجني الانسان بعد اليوم هامته
لحجر، ولا وثن.. ولن يعبد الناس ملء ضمائرهم الا الله الي ليس كمثله شيء،
الواحد الأحد، الكبير المتعال..
ويدخل الرسول الكعبة، مصطحبا معه بلال..!
ولا يكاد يدخلها حتى يواجه تمثالا منحوتا، يمثل ابراهيم عليه السلام وهو
يستقسم بالأزلام، فيغضب الرسول ويقول:
'قاتلهم الله..
ما كان شيخنا يستقسم بالأزلام.. ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن
كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين'.
ويأمر بلال أن يعلو ظهر المسجد، ويؤذن.
ويؤذن بلال.. فيالروعة الزمان، واملكان، والمناسبة..!!
كفت الحياة في مكة عن الحركة، ووقفت الألوف المسلمة كالنسمة الساكنة، تردد
في خشوع وهمس كلمات الآذان ورء بلال.
والمشركون في بيوتهم لا يكادون يصدقون:
أهذا هو محمد وفقراؤه الذين أخرجوا بالأمس من هذا الديار..؟؟
أهذا هو حقا، ومعه عشرة آلاف من المؤمنين..؟؟
أهذا هو حقا الذي قاتلناه، وطاردنبه، وقتلنا أحب الناس اليه..؟
أهذا هو حقا الذي كان يخاطبنا من لحظات ورقابنا بين يديه، ويقول لنا:
'اذهبوا فأنتم الطلقاء'..!!
ولكن ثلاثة من أشراف قريش، كانوا جلوسا بفناء الكعبة، وكأنما يلفحهم مشهد
بلال وهو يدوس أصنامهم بقدميه، ويرسل من فوق ركامها المهيل صوته بالأذان
المنتشر في آفاق مكة كلها كعبير الربيع..
أما هؤلاء الثلاثة فهم، أبوسفيان بن حرب، وكان قد أسلم منذ ساعات، وعتّاب
بن أسيد، والحارث بن هشام، وكانا لم يسلما بعد.
قال عتاب وعينه على بلال وهو يصدح بأذانه:
لقد أكرم الله اسيدا، ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث:
أما والله لو أعلم أن محمدا محق لاتبعته..!!
وعقب أبو سفيان الداهية على حديثهما قائلا:
اني لا أقول شيئا، فلو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى!! وحين غادر النبي
الكعبة رآهم، وقرأ وجوههم في لحظة، قال وعيناه تتألقان بنور الله، وفرحة
النصر:
قد علمت الذي قلتم..!!!
ومضى يحدثهم بما قالوا..
فصاح الحارث وعتاب:
نشهد أنك رسول الله، والله ما سمعنا أحد فنقول أخبرك..!!
واستقبلا بلال بقلوب جديدة..في أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب
الرسول أول دخول مكة:
' يامعشر قريش..
ان الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء..
الناس من آدم وآدم من تراب'..
**
وعاش بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشهد معه المشاهد كلها، يؤذن
للصلاة، ويحيي ويحمي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات الى
النور، ومن الرق الى الحريّة..
وعلا شأن الاسلام، وعلا معه شأن المسلمين، وكان بلال يزداد كل يوم قربا من
قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يصفه بأنه:' رجل من أهل
الجنة'..
لكن بلالا بقي كما هو كريما متواضعا، لا يرى نفسه الا أنه:' الحبشي الذي
كان بالأمس عبدا'..!!
ذهب يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما:
'أنا بلال، هذا أخي عبدان من الحبشة.. كنا ضالين فهدانا الله.. ومنا عبدين
فأعتقنا الله.. ان تزوّجونا فالحمد لله.. وان تمنعونا فالله أكبر..'!!
**
وذهب الرسول الى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا، ونهض بأمر المسلمين من بعده
خليفته أبو بكر الصديق..
وذهب بلال الى خليفة رسول الله يقول له:
' يا خليفة رسول الله..
اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أفضل عمل لبمؤمن الجهاد في
سبيل الله'..
فقال له أبو بكر: فما تشاء يا بلال..؟
قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتىأموت..
قال أبو بكر ومن يؤذن لنا؟
قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع، اني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله.
قال أبو بكر: بل ابق وأذن لنا يا بلال..
قال بلال: ان كنت أعتقتني لأكون لك فليكن لك ما تريد. وان كنت أعتقتني لله
فدعني وما أعتقتني له..
قالأبو بكر: بل أعتقتك لله يا بلال..
ويختلف الرواة، فيروي بعضهم أنه سافر الى الشام حيث بقي فيها مجاهدا
مرابطا.
ويروي بعضهم الآخر، أنه قبل رجاء أبي بكر في أن يبقى معه بالمدينة، فلما
قبض وولي عمر الخلافة استأذنه وخرج الى الشام.
على أية حال، فقد نذر بلال بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور الاسلام،
مصمما أن يلقى الله ورسوله وهو على خير عمل يحبانه.
ولم يعد يصدح بالأذان بصوته الشجي الحفيّ المهيب، ذلك أنه لم ينطق في أذانه
'أشهد أن محمدا رسول الله' حتى تجيش به الذمؤيات فيختفي صوته تحت وقع
أساه، وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته.
وكان آخر أذان له أيام زار أمير المؤمنين عمر وتوسل المسلمون اليه أن يحمل
بلالا على أن يؤذن لهم صلاة واحدة.
ودعا أمير المؤمنين بلال، وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها.
وصعد بلال وأذن.. فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذن
له.. بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا.. وكان عمر أشدهم بكاء..!!
**
ومات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما أراد.
وتحت ثرى دمشق يثوي اليوم رفات رجل من أعظم رجال البشر صلابة في الوقوف الى
جانب العقيدة والاقتناع .
Ahmed Emad- 931
رد: رجال حول الرسول(صلى الله عليه وسلم)
مصعب بن عمير - أول سفراء الاسلام
غرّة فتيان قريش، وأوفاهم جمالا، وشبابا..
يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون:' كان أعطر أهل مكة'..
ولد في النعمة، وغذيّ بها، وشبّ تحت خمائلها.
ولعله لم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به 'مصعب بن عمير'..
ذلك الفتر الريّان، المدلل المنعّم، حديث حسان مكة، ولؤلؤة ندواتها ومجالسها، أيمكن أن يتحوّل الى أسطورة من أساطير الايمان والفداء..؟
بالله ما أروعه من نبأ.. نبأ 'مصعب بن عمير'، أو 'مصعب الخير' كما كان لقبه بين المسلمين.
انه واحد من أولئك الذين صاغهم الاسلام وربّاهم 'محمد' عليه الصلاة والسلام..
ولكن أي واحد كان..؟
ان قصة حياته لشرف لبني الانسان جميعا..
لقد سمع الفتى ذات يوم، ما بدأ أهل مكة يسمعونه من محمد الأمين صلى الله عليه وسلم..
'محمد' الذي يقول أن الله أرسله بشيرا ونذيرا. وداعيا الى عبادة الله الواحد الأحد.
وحين كانت مكة تمسي وتصبح ولا همّ لها، ولا حديث يشغلها الا الرسول عليه الصلاة والسلام ودينه، كان فتى قريش المدلل أكثر الناس استماعا لهذا الحديث.
ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه، زينة المجالس والندوات، تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها، ذلك أن أناقة مظهره ورجاحة عقله كانتا من خصال 'ابن عمير التي تفتح له القلوب والأبواب..
ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه، يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها.. هناك على الصفا في درا 'الأرقم بن أبي الأرقم' فلم يطل به التردد، ولا التلبث والانتظار، بل صحب نفسه ذات مساء الى دار الأرقم تسبقه أشواقه ورؤاه...
هناك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن، ويصلي معهم لله العليّ القدير.
ولم يكد مصعب يأخذ مكانه، وتنساب الآيات من قلب الرسول متألفة على شفتيه، ثم آخذة طريقها الى الأسماع والأفئدة، حتى كان فؤاد ابن عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..!
ولقد كادت الغبطة تخلعه من مكانه، وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لامست الصدر المتوهج، والفؤاد المتوثب، فكانت السكينة العميقة عمق المحيط.. وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما بفوق ضعف سنّه وعمره، ومعه من التصميم ما يغيّر سير الزمان..!!!
**
كانت أم مصعب 'خنّاس بنت مالك' تتمتع بقوة فذة في شخصيتها، وكانت تهاب الى حد الرهبة..
ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الأرض قوة سوى امه.
فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها وصحرائها، استحالت هولا يقارعه ويصارعه، لاستخف به مصعب الى حين..
أما خصومة أمه، فهذا هو الهول الذي لا يطاق..!
ولقد فكر سريعا، وقرر أن يكتم اسلامه حتى يقضي الله أمرا.
وظل يتردد على دار الأرقم، ويجلس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قرير العين بايمانه، وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم خبر اسلامه خبرا..
ولكن مكة في تلك الأيام بالذات، لا يخفى فيها سر، فعيون قريش وآذانها على كل طريق، ووراء كل بصمة قدم فوق رمالها الناعمة اللاهبة، الواشية..
ولقد أبصر به 'عثمان بن طلحة' وهو يدخل خفية الى دار الأرقم.. ثم رآه مرة أخرى وهو سصلي كصلاة محمد صلى الله عليه وسلم، فسابق ريح الصحراء وزوابعها، شاخصا الى أم مصعب، حيث ألقى عليها النبأ الذي طار بصوابها...
ووقف مصعب أمام أمه، وعشيرته، وأشراف مكة مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته، القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم، ويملؤها به حكمة وشرفا، وعدلا وتقى.
وهمّت أمه أن تسكته بلطمة قاسية، ولكن اليد التي امتدت كالسهم، ما لبثت أم استرخت وتنحّت أمام النور الذي زاد وسامة وجهه وبهاءه جلالا يفرض الاحترام، وهدوءا يفرض الاقناع..
ولكن، اذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والأذى، فان في مقدرتها أ، تثأر للآلهة التي هجرها بأسلوب آخر..
وهكذا مضت به الى ركن قصي من أركان دارها، وحبسته فيه، وأحكمت عليه اغلاقه، وظل رهين محبسه ذاك، حتى خرج بعض المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة، فاحتال لنفسه حين سمع النبأ، وغافل أمه وحراسه، ومضى الى الحبشة مهاجرا أوّابا..
ولسوف يمكث بالحبشة مع اخوانه المهاجرين، ثم يعود معهم الى مكة، ثم يهاجر الى الحبشة للمرة الثانية مع الأصحاب الذين يأمرهم الرسول بالهجرة فيطيعون.
ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة، فان تجربة ايمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان، ولقد فرغ من اعداة صياغة حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار، واطمأن مصعب الى أن حياته قد صارت جديرة بأن تقدّم قربانا لبارئها الأعلى، وخالقها العظيم..
خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله، فما ان بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا شجيّا..
ذلك أنهم رأوه.. يرتدي جلبابا مرقعا باليا، وعاودتهم صورته الأولى قبل اسلامه، حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة، وألقا وعطرا..
وتملى رسول الله مشهده بنظرات حكيمة، شاكرة محبة، وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة، وقال:
' لقد رأيت مصعبا هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله'.!!
لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها انسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها، حتى ولو يكون هذا الانسان ابنها..!!
ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة. فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه..
وانها لتعلم صدق عزمه اذا همّ وعزم، فودعته باكية، وودعها باكيا..
وكشفت لحظة الوداع عن اصرار عجيب على الكفر من جانب الأم واصرار أكبر على الايمان من جانب الابن.. فحين قالت له وهي تخرجهمن بيتها: اذهب لشأنك، لم أعد لك أمّا. اقترب منها وقال:'يا أمّه اني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا اله الا الله، وأن محمدا عبده ورسوله'...
أجابته غاضبة مهتاجة:' قسما بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف غقلي'..!!
وخرج مصعب من العنمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة.. وأصبح الفتى المتأنق المعطّر، لا يرى الا مرتديا أخشن الثياب، يأكل يوما، ويجوع أياماو ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة، والمتألقة بنور الله، كانت قد جعلت منه انسانا آخر يملأ الأعين جلال والأنفس روعة...
**
وآنئذ، اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها: أن يكون سفيره الى المدينة، يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة، ويدخل غيرهم في دين الله، ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم..
كان في أصحاب رسول الله يومئذ من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها، وأقرب من الرسول قرابة.. ولكن الرسول اختار مصعب الخير، وهو يعلم أنه يكل اليه بأخطر قضايا الساعة، ويلقي بين يديه مصير الاسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة، ومنطلق الدعوة والدعاة، والمبشرين والغزاة، بعد حين من الزمان قريب..
وحمل مصعب الأمانة مستعينا بما أنعم الله عليه من رجاحة العقل وكريم الخلق، ولقد غزا أفئدة المدينة وأهلها بزهده وترفعه واخلاصه، فدخلوا في دين الله أفواجا..
لقد جاءها يوم بعثه الرسول اليها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة العقبة، ولكنه ام يكد يتم بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا لله وللرسول..!!
وفي موسم الحج التالي لبيعة العقبة، كان مسلمو المدينة يرسلون الى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم وينوب عنهم.. وكان عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة.. جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم اليهم 'مصعب ابن عمير'.
لقد أثبت 'مصعب' بكياسته وحسن بلائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار..
فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها.ز عرف أنه داعية الى الله تعالى، ومبشر بدينه الذي يدعوا الناس الى الهدى، والى صراط مستقيم. وأنه كرسوله الذي آمن به، ليس عليه الا البلاغ..
هناك نهض في ضيافة 'أسعد بم زرارة' يفشيان معا القبائل والبويت والمجالس، تاليا على الناس ما كان معه من كتاب ربه، هاتفا بينهم في رفق عظيم بكلمة الله (انما الله اله واحد)..
ولقد تعرّض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه، لولا فطنة عقله، وعظمة روحه..
ذات يوم فاجأه وهو يعظ الانس 'أسيد بن خضير' سيد بني عبد الأشهل بالمدينة، فاجأه شاهرا حربتهو يتوهج غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم.. ويدعوهم لهجر آلهتهم، ويحدثهم عن اله واحد لم يعرفوه من قبل، ولم يألفوه من قبل..!
ان آلهتهم معهم رابضة في مجاثمهاو اذا حتاجها أحد عرف مكانها وولى وجهه ساعيا اليها، فتكشف ضرّه وتلبي دعاءه... هكذا يتصورون ويتوهمون..
أما اله محمد الذي يدعوهم اليه باسمه هذا السفير الوافد اليهم، فما أحد يعرف مكانه، ولا أحد يستطيع أن يراه..!!
وما ان رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد ابن حضير متوشحا غضبه المتلظي، وثورته المتحفزة، حتى وجلوا.. ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا، متهللا..
وقف اسيد أمامه مهتاجا، وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة:
'ما جاء بكما الى حيّنا، تسهفان ضعفاءنا..؟ اعتزلانا، اذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة'..!!
وفي مثل هدوء البحر وقوته..
وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته.. انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك بالحديث الطيب لسانه فقال:
'أولا تجلس فتستمع..؟! فان رضيت أمرنا قبلته.. وان كرهته كففنا عنك ما تكره'.
الله أكبر. ما أروعها من بداية سيسعد بها الختام..!!
كان أسيد رجلا أريبا عاقلا.. وها هو ذا يرى مصعبا يحتكم معه الى ضميره، فيدعوه أن يسمع لا غير.. فان اقتنع، تركه لاقتناعهو وان لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم، وتحول الى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضارّ ولا مضارّ..
هنالك أجابه أسيد قائلا: أنصفت.. وألقى حربته الى الأرض وجلس يصغي..
ولم يكد مصعب يقرأ القرآن، ويفسر الدعوة التي جاء بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، حتى أخذت أسارير أسيد تبرق وتشرق.. وتتغير مع مواقع الكلم، وتكتسي بجماله..!!
ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائلا:
'ما أحسن هذا القول وأصدقه.. كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين'..؟؟
وأجابوه بتهليلة رجّت الأرض رجّا، ثم قال له مصعب:
'يطهر ثوبه وبدنه، ويشهد أن لا اله الا الله'.
فعاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه، ووقف يعلن أن لا اله الا الله، وأن محمدا رسول الله..
وسرى الخبر كالضوء.. وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع، وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة، وتمت باسلامهم النعمة، وأقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون: اذا كان أسيد بن حضير، وسعد ابن معاذ، وسعد بن عبادة قد أسلموا، ففيم تخلفنا..؟ هيا الى مصعب، فلنؤمن معه، فانهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه..!!
**
لقد نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم نجاحا منقطع النظير.. نجاه\حا هو له أهل، وبه جدير..
وتمضي الأيام والأعوام، ويهاجر الرسول وصحبه الى المدينة، وتتلمظ قريش بأحقادها.. وتعدّ عدّة باطلها، لتواصل مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين.. وتقوم غزوة بدر، قيتلقون فيها درسا يفقدهم بقية صوابهم ويسعون الى الثأر،و تجيء غزوة أحد.. ويعبئ المسلمون أنفسهم، ويقف الرسول صلى الله عليه وسلم وسط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من يحمل الراية.. ويدعو مصعب الخير، فيتقدم ويحمل اللواء..
وتشب المعركة الرهيبة، ويحتدم القتال، ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ويغادرون موقعهم في أعلى الجبل بعد أن رأوا المشركين ينسحبون منهزمين، لكن عملهم هذا، سرعان ما يحوّل نصر المسلمين الى هزيمة.. ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل، وتعمل فيهم على حين غرّة، السيوف الظامئة المجنونة..
حين رأوا الفوضى والذعر في صفوف المسلمين، ركزا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوه..
وأدرك مصعب بن عمير الخطر الغادر، فرفع اللواء عاليا، وأطلق تكبيرة كالزئير، ومضى يجول ويتواثب.. وكل همه أن يلفت نظر الأعداء اليه ويشغلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، وجرّد من ذاته جيشا بأسره.. أجل، ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش لجب غزير..
يد تحمل الراية في تقديس..
ويد تضرب بالسيف في عنفزان..
ولكن الأعداء يتكاثرون عليه، يريدون أن يعبروا فوق جثته الى حيث يلقون الرسول..
لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الخاتم في حياة مصعب العظيم..!!
يقول ابن سعد: أخبرنا ابراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه قال:
[حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب، فأقبل ابن قميئة وهو فارس، فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..
وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه الى صدره وهو يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..
ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح، ووقع مصعب، وسقط اللواء].
وقع مصعب.. وسقط اللواء..!!
وقع حلية الشهادة، وكوكب الشهداء..!!
وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء والايمان..
كان يظن أنه اذا سقط، فسيصبح طريق القتلة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاليا من المدافعين والحماة..
ولكنه كان يعزي نفسه في رسول الله عليه الصلاة والسلام من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع منه ذراعا:
(وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل)
هذه الآية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها، ويكملها، ويجعلها، قرآنا يتلى..
**
وبعد انتهاء المعركة المريرة، وجد جثمان الشهيد الرشيد راقدا، وقد أخفى وجهه في تراب الأرض المضمخ بدمائه الزكية..
لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول الله يصيبه السوء، فأخفى وجهه حتى لا يرى هذا الذي يحاذره ويخشاه..!!
أو لكأنه خجلان اذ سقط شهيدا قبلأن يطمئن على نجاة رسول الله، وقبل أن يؤدي الى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه..!!
لك الله يا مصعب.. يا من ذكرك عطر الحياة..!!
**
وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها..
وعند جثمان مصعب، سالت دموع وفيّة غزيرة..
يقوا خبّاب بن الأرت:
[هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل اله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد.. فلم يوجد له شيء يكفن فيه الا نمرة.. فكنا اذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، واذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:' اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الاذخر'..]..
وعلى الرغم من الألم الحزين العميق الذي سببه رزء الرسول صلى الله عليه وسلم في عمه حمزة، وتمثيل المشركين يجثمانه تمثيلا أفاض دموع الرسول عليه السلام، وأوجع فؤاده..
وعلى الرغم م امتاتء أرض المعركة بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالما من الصدق والطهر والنور..
على الرغم من كل هذا، فقد وقف على جثمان أول سفرائه، يودعه وينعاه..
أجل.. وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند مصعب بن عمير وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما:
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)
ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي مفن بها وقاللقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمّة منك. 'ثم هأنتذا شعث الرأس في بردة'..؟!
وهتف الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال:
'ان رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة'.
ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال:
'أيها الناس زوروهم،وأتوهم، وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده، لا يسلم عليهم مسلم الى يوم القيامة، الا ردوا عليه السلام'..
غرّة فتيان قريش، وأوفاهم جمالا، وشبابا..
يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون:' كان أعطر أهل مكة'..
ولد في النعمة، وغذيّ بها، وشبّ تحت خمائلها.
ولعله لم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به 'مصعب بن عمير'..
ذلك الفتر الريّان، المدلل المنعّم، حديث حسان مكة، ولؤلؤة ندواتها ومجالسها، أيمكن أن يتحوّل الى أسطورة من أساطير الايمان والفداء..؟
بالله ما أروعه من نبأ.. نبأ 'مصعب بن عمير'، أو 'مصعب الخير' كما كان لقبه بين المسلمين.
انه واحد من أولئك الذين صاغهم الاسلام وربّاهم 'محمد' عليه الصلاة والسلام..
ولكن أي واحد كان..؟
ان قصة حياته لشرف لبني الانسان جميعا..
لقد سمع الفتى ذات يوم، ما بدأ أهل مكة يسمعونه من محمد الأمين صلى الله عليه وسلم..
'محمد' الذي يقول أن الله أرسله بشيرا ونذيرا. وداعيا الى عبادة الله الواحد الأحد.
وحين كانت مكة تمسي وتصبح ولا همّ لها، ولا حديث يشغلها الا الرسول عليه الصلاة والسلام ودينه، كان فتى قريش المدلل أكثر الناس استماعا لهذا الحديث.
ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه، زينة المجالس والندوات، تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها، ذلك أن أناقة مظهره ورجاحة عقله كانتا من خصال 'ابن عمير التي تفتح له القلوب والأبواب..
ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه، يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها.. هناك على الصفا في درا 'الأرقم بن أبي الأرقم' فلم يطل به التردد، ولا التلبث والانتظار، بل صحب نفسه ذات مساء الى دار الأرقم تسبقه أشواقه ورؤاه...
هناك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن، ويصلي معهم لله العليّ القدير.
ولم يكد مصعب يأخذ مكانه، وتنساب الآيات من قلب الرسول متألفة على شفتيه، ثم آخذة طريقها الى الأسماع والأفئدة، حتى كان فؤاد ابن عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..!
ولقد كادت الغبطة تخلعه من مكانه، وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لامست الصدر المتوهج، والفؤاد المتوثب، فكانت السكينة العميقة عمق المحيط.. وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما بفوق ضعف سنّه وعمره، ومعه من التصميم ما يغيّر سير الزمان..!!!
**
كانت أم مصعب 'خنّاس بنت مالك' تتمتع بقوة فذة في شخصيتها، وكانت تهاب الى حد الرهبة..
ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الأرض قوة سوى امه.
فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها وصحرائها، استحالت هولا يقارعه ويصارعه، لاستخف به مصعب الى حين..
أما خصومة أمه، فهذا هو الهول الذي لا يطاق..!
ولقد فكر سريعا، وقرر أن يكتم اسلامه حتى يقضي الله أمرا.
وظل يتردد على دار الأرقم، ويجلس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قرير العين بايمانه، وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم خبر اسلامه خبرا..
ولكن مكة في تلك الأيام بالذات، لا يخفى فيها سر، فعيون قريش وآذانها على كل طريق، ووراء كل بصمة قدم فوق رمالها الناعمة اللاهبة، الواشية..
ولقد أبصر به 'عثمان بن طلحة' وهو يدخل خفية الى دار الأرقم.. ثم رآه مرة أخرى وهو سصلي كصلاة محمد صلى الله عليه وسلم، فسابق ريح الصحراء وزوابعها، شاخصا الى أم مصعب، حيث ألقى عليها النبأ الذي طار بصوابها...
ووقف مصعب أمام أمه، وعشيرته، وأشراف مكة مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته، القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم، ويملؤها به حكمة وشرفا، وعدلا وتقى.
وهمّت أمه أن تسكته بلطمة قاسية، ولكن اليد التي امتدت كالسهم، ما لبثت أم استرخت وتنحّت أمام النور الذي زاد وسامة وجهه وبهاءه جلالا يفرض الاحترام، وهدوءا يفرض الاقناع..
ولكن، اذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والأذى، فان في مقدرتها أ، تثأر للآلهة التي هجرها بأسلوب آخر..
وهكذا مضت به الى ركن قصي من أركان دارها، وحبسته فيه، وأحكمت عليه اغلاقه، وظل رهين محبسه ذاك، حتى خرج بعض المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة، فاحتال لنفسه حين سمع النبأ، وغافل أمه وحراسه، ومضى الى الحبشة مهاجرا أوّابا..
ولسوف يمكث بالحبشة مع اخوانه المهاجرين، ثم يعود معهم الى مكة، ثم يهاجر الى الحبشة للمرة الثانية مع الأصحاب الذين يأمرهم الرسول بالهجرة فيطيعون.
ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة، فان تجربة ايمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان، ولقد فرغ من اعداة صياغة حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار، واطمأن مصعب الى أن حياته قد صارت جديرة بأن تقدّم قربانا لبارئها الأعلى، وخالقها العظيم..
خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله، فما ان بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا شجيّا..
ذلك أنهم رأوه.. يرتدي جلبابا مرقعا باليا، وعاودتهم صورته الأولى قبل اسلامه، حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة، وألقا وعطرا..
وتملى رسول الله مشهده بنظرات حكيمة، شاكرة محبة، وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة، وقال:
' لقد رأيت مصعبا هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله'.!!
لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها انسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها، حتى ولو يكون هذا الانسان ابنها..!!
ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة. فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه..
وانها لتعلم صدق عزمه اذا همّ وعزم، فودعته باكية، وودعها باكيا..
وكشفت لحظة الوداع عن اصرار عجيب على الكفر من جانب الأم واصرار أكبر على الايمان من جانب الابن.. فحين قالت له وهي تخرجهمن بيتها: اذهب لشأنك، لم أعد لك أمّا. اقترب منها وقال:'يا أمّه اني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا اله الا الله، وأن محمدا عبده ورسوله'...
أجابته غاضبة مهتاجة:' قسما بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف غقلي'..!!
وخرج مصعب من العنمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة.. وأصبح الفتى المتأنق المعطّر، لا يرى الا مرتديا أخشن الثياب، يأكل يوما، ويجوع أياماو ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة، والمتألقة بنور الله، كانت قد جعلت منه انسانا آخر يملأ الأعين جلال والأنفس روعة...
**
وآنئذ، اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها: أن يكون سفيره الى المدينة، يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة، ويدخل غيرهم في دين الله، ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم..
كان في أصحاب رسول الله يومئذ من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها، وأقرب من الرسول قرابة.. ولكن الرسول اختار مصعب الخير، وهو يعلم أنه يكل اليه بأخطر قضايا الساعة، ويلقي بين يديه مصير الاسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة، ومنطلق الدعوة والدعاة، والمبشرين والغزاة، بعد حين من الزمان قريب..
وحمل مصعب الأمانة مستعينا بما أنعم الله عليه من رجاحة العقل وكريم الخلق، ولقد غزا أفئدة المدينة وأهلها بزهده وترفعه واخلاصه، فدخلوا في دين الله أفواجا..
لقد جاءها يوم بعثه الرسول اليها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة العقبة، ولكنه ام يكد يتم بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا لله وللرسول..!!
وفي موسم الحج التالي لبيعة العقبة، كان مسلمو المدينة يرسلون الى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم وينوب عنهم.. وكان عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة.. جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم اليهم 'مصعب ابن عمير'.
لقد أثبت 'مصعب' بكياسته وحسن بلائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار..
فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها.ز عرف أنه داعية الى الله تعالى، ومبشر بدينه الذي يدعوا الناس الى الهدى، والى صراط مستقيم. وأنه كرسوله الذي آمن به، ليس عليه الا البلاغ..
هناك نهض في ضيافة 'أسعد بم زرارة' يفشيان معا القبائل والبويت والمجالس، تاليا على الناس ما كان معه من كتاب ربه، هاتفا بينهم في رفق عظيم بكلمة الله (انما الله اله واحد)..
ولقد تعرّض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه، لولا فطنة عقله، وعظمة روحه..
ذات يوم فاجأه وهو يعظ الانس 'أسيد بن خضير' سيد بني عبد الأشهل بالمدينة، فاجأه شاهرا حربتهو يتوهج غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم.. ويدعوهم لهجر آلهتهم، ويحدثهم عن اله واحد لم يعرفوه من قبل، ولم يألفوه من قبل..!
ان آلهتهم معهم رابضة في مجاثمهاو اذا حتاجها أحد عرف مكانها وولى وجهه ساعيا اليها، فتكشف ضرّه وتلبي دعاءه... هكذا يتصورون ويتوهمون..
أما اله محمد الذي يدعوهم اليه باسمه هذا السفير الوافد اليهم، فما أحد يعرف مكانه، ولا أحد يستطيع أن يراه..!!
وما ان رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد ابن حضير متوشحا غضبه المتلظي، وثورته المتحفزة، حتى وجلوا.. ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا، متهللا..
وقف اسيد أمامه مهتاجا، وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة:
'ما جاء بكما الى حيّنا، تسهفان ضعفاءنا..؟ اعتزلانا، اذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة'..!!
وفي مثل هدوء البحر وقوته..
وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته.. انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك بالحديث الطيب لسانه فقال:
'أولا تجلس فتستمع..؟! فان رضيت أمرنا قبلته.. وان كرهته كففنا عنك ما تكره'.
الله أكبر. ما أروعها من بداية سيسعد بها الختام..!!
كان أسيد رجلا أريبا عاقلا.. وها هو ذا يرى مصعبا يحتكم معه الى ضميره، فيدعوه أن يسمع لا غير.. فان اقتنع، تركه لاقتناعهو وان لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم، وتحول الى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضارّ ولا مضارّ..
هنالك أجابه أسيد قائلا: أنصفت.. وألقى حربته الى الأرض وجلس يصغي..
ولم يكد مصعب يقرأ القرآن، ويفسر الدعوة التي جاء بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، حتى أخذت أسارير أسيد تبرق وتشرق.. وتتغير مع مواقع الكلم، وتكتسي بجماله..!!
ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائلا:
'ما أحسن هذا القول وأصدقه.. كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين'..؟؟
وأجابوه بتهليلة رجّت الأرض رجّا، ثم قال له مصعب:
'يطهر ثوبه وبدنه، ويشهد أن لا اله الا الله'.
فعاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه، ووقف يعلن أن لا اله الا الله، وأن محمدا رسول الله..
وسرى الخبر كالضوء.. وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع، وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة، وتمت باسلامهم النعمة، وأقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون: اذا كان أسيد بن حضير، وسعد ابن معاذ، وسعد بن عبادة قد أسلموا، ففيم تخلفنا..؟ هيا الى مصعب، فلنؤمن معه، فانهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه..!!
**
لقد نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم نجاحا منقطع النظير.. نجاه\حا هو له أهل، وبه جدير..
وتمضي الأيام والأعوام، ويهاجر الرسول وصحبه الى المدينة، وتتلمظ قريش بأحقادها.. وتعدّ عدّة باطلها، لتواصل مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين.. وتقوم غزوة بدر، قيتلقون فيها درسا يفقدهم بقية صوابهم ويسعون الى الثأر،و تجيء غزوة أحد.. ويعبئ المسلمون أنفسهم، ويقف الرسول صلى الله عليه وسلم وسط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من يحمل الراية.. ويدعو مصعب الخير، فيتقدم ويحمل اللواء..
وتشب المعركة الرهيبة، ويحتدم القتال، ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ويغادرون موقعهم في أعلى الجبل بعد أن رأوا المشركين ينسحبون منهزمين، لكن عملهم هذا، سرعان ما يحوّل نصر المسلمين الى هزيمة.. ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل، وتعمل فيهم على حين غرّة، السيوف الظامئة المجنونة..
حين رأوا الفوضى والذعر في صفوف المسلمين، ركزا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوه..
وأدرك مصعب بن عمير الخطر الغادر، فرفع اللواء عاليا، وأطلق تكبيرة كالزئير، ومضى يجول ويتواثب.. وكل همه أن يلفت نظر الأعداء اليه ويشغلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، وجرّد من ذاته جيشا بأسره.. أجل، ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش لجب غزير..
يد تحمل الراية في تقديس..
ويد تضرب بالسيف في عنفزان..
ولكن الأعداء يتكاثرون عليه، يريدون أن يعبروا فوق جثته الى حيث يلقون الرسول..
لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الخاتم في حياة مصعب العظيم..!!
يقول ابن سعد: أخبرنا ابراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه قال:
[حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب، فأقبل ابن قميئة وهو فارس، فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..
وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه الى صدره وهو يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..
ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح، ووقع مصعب، وسقط اللواء].
وقع مصعب.. وسقط اللواء..!!
وقع حلية الشهادة، وكوكب الشهداء..!!
وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء والايمان..
كان يظن أنه اذا سقط، فسيصبح طريق القتلة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاليا من المدافعين والحماة..
ولكنه كان يعزي نفسه في رسول الله عليه الصلاة والسلام من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع منه ذراعا:
(وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل)
هذه الآية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها، ويكملها، ويجعلها، قرآنا يتلى..
**
وبعد انتهاء المعركة المريرة، وجد جثمان الشهيد الرشيد راقدا، وقد أخفى وجهه في تراب الأرض المضمخ بدمائه الزكية..
لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول الله يصيبه السوء، فأخفى وجهه حتى لا يرى هذا الذي يحاذره ويخشاه..!!
أو لكأنه خجلان اذ سقط شهيدا قبلأن يطمئن على نجاة رسول الله، وقبل أن يؤدي الى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه..!!
لك الله يا مصعب.. يا من ذكرك عطر الحياة..!!
**
وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها..
وعند جثمان مصعب، سالت دموع وفيّة غزيرة..
يقوا خبّاب بن الأرت:
[هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل اله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد.. فلم يوجد له شيء يكفن فيه الا نمرة.. فكنا اذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، واذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:' اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الاذخر'..]..
وعلى الرغم من الألم الحزين العميق الذي سببه رزء الرسول صلى الله عليه وسلم في عمه حمزة، وتمثيل المشركين يجثمانه تمثيلا أفاض دموع الرسول عليه السلام، وأوجع فؤاده..
وعلى الرغم م امتاتء أرض المعركة بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالما من الصدق والطهر والنور..
على الرغم من كل هذا، فقد وقف على جثمان أول سفرائه، يودعه وينعاه..
أجل.. وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند مصعب بن عمير وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما:
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)
ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي مفن بها وقاللقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمّة منك. 'ثم هأنتذا شعث الرأس في بردة'..؟!
وهتف الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال:
'ان رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة'.
ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال:
'أيها الناس زوروهم،وأتوهم، وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده، لا يسلم عليهم مسلم الى يوم القيامة، الا ردوا عليه السلام'..
Ahmed Emad- 931
رد: رجال حول الرسول(صلى الله عليه وسلم)
عمرو بن العاص - محرّر مصر من الرومان
كانوا ثلاثة في قريش، اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعنف مقاومتهم دعوته وايذائهم أصحابه..
وراح الرسول يدعو عليهم، ويبتهل الى ربه الكريم أن ينزل بهم عقابه..
واذ هو يدعو ويدعو، تنزل الوحي على قلبه بهذه الآية الكريمة..
( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم، فانهم ظالمون)..
وفهم الرسول من الآية أنها أمر له بالكف عن الدعاء عليهم، وترك أمرهم الى الله وحده..
فامّا أن يظلوا على ظلمهم، فيحلّ بهم عذابه..
أو يتوب عليهم فيتوبوا، وتدركهم رحمته..
كان عمرو بن العاص أحد هؤلاء الثلاثة..
ولقد اختار الله لهم طريق التوبة والرحمة وهداهم الى الاسلام..
وتحول عمرو بن العاص الى مسلم مناضل. والى قائد من قادة الاسلام البواسل..
وعلى الرغم من بعض مواقف عمرو التي لا نستطيع أن نقتنع بوجهة نظره فيها، فان دوره كصحابيّ جليل بذل وأعطى، ونافح وكافح، سيظل يفتح على محيّاه أعيننا وقلوبنا..
وهنا في مصر بالذات، سيظل الذين يرون الاسلام دينا قيما مجيدا..
ويرون في رسوله رحمة مهداة، ونعمة موجاة، ورسول صدق عظيم، دعا الى الله على بصيرة، وألهم الحياة كثيرا من رشدها وتقاها..
سيظل الذين يحملون هذا الايمان مشحوذي الولاء للرجل الذي جعلته الأقدار سببا، وأي سبب، لاهداء الاسلام الى مصر، واهداء مصر الى الاسلام.. فنعمت الهداية ونعم مهديها..
ذلكم هو: عمرو بن العاص رضي الله عنه..
ولقد تعوّد المؤرخون أن ينعتوا عمرا بـ فاتح مصر..
بيد أنا نرى في هذا الوصف تجوزا وتجاوزا، ولعل أحق النعوت بعمرو أن ندعوه بـ محرر مصر..
فالاسلام لم يكن يفتح البلاد بالمفهوم الحديث للفتح، انما كان يحررها من تسلط امبراطوريتين سامتا العباد والبلاد سوء العذاب، تانك هما:
امبراطورية الفرس.ز وامبراطورية الروم..
ومصر بالذات، يوم أهلت عليها طلائع الاسلام كانت نهبا للرومان وكان أهلها يقاومون دون جدوى..
ولما دوّت فوق مشارف بلادهم صيحات الكتائب المؤمنة أن:
' الله أكبر..
الله أكبر'..
سارعوا جميعا في زحام مجيد صوب الفجر الوافد وعانقوه، واجدين فيه خلاصهم من قيصر ومن الرومان..
فعمرو بن العاص ورجاله، لم يفتحوا مصر اذن.. انما فتحوا الطريق أمام مصر لتصل بالحق مصايرها.. وتربط بالعدل مقاديرها.. وتجد نفسها وحقيقتها في ضوء كلمات الله، ومبادئ الاسلام..
ولقد كان رضي الله عنه حريصا على أن يباعد أهل مصر وأقباطها عن المعركة، ليظل القتال محصورا بينه وبين جنود الرومان الين يحتلون البلاد ويسرقون أرزاق أهلها..
من أجل ذلك نجده يتحدث الى زعماء النصارى يومئذ وكبار أشاقفتهم، فيقول:
'... ان الله بعث محمدا بالحق وأمره به..
وانه عليه الصلاة والسلام، قد أدّى رسالته، ومضى بعد أن تركنا على الواضحة أي الطريق الواضح المستقيم..
وكان مما أمرنا به الاعذار الى الناس، فنحن ندعوكم الى الاسلام..
فمن أجابنا، فهو منا، له ما لنا وعليه ما علينا..
ومن لم يجبنا الى الاسلام، عرضنا عليه الجزية أي الضرائب وبذلنا له الحماية والمنعة..
ولقد أخبرنا نبينا أن مصر ستفتح علينا، وأوصانا بأهلها خيرا فقال:' ستفتح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطها خيرا، فان لهم ذمّة ورحما'..
فان أجبتمونا الى ما ندعوكم اليه كانت لكم ذمة الى ذمة'...
وفرغ عمرو من كلماته، فصاح بعض الأساقفة والرهبان قائلا:
' ان الرحم التي أوصاكم بها نبيّكم، لهي قرابة بعيدة، لا يصل مثلها الا الأنبياء'..!!
وكانت هذه بداية طيبة للتفاهم المرجو بين عمرو أقباط مصر.. وان يكن قادة الرومان قد حاولوا العمل لاحباطها..
**
وعمرو بن العاص لم يكن من السابقين الى الاسلام، فقد أسلم مع خالد بن الوليد قبيل فتح مكة بقليل..
ومن عجب أن اسلامه بدأ على يد النجاشي بالحبشة وذلك أن النجاشي يعرف عمرا ويحترمه بسبب تردده الكثير على الحبشة والهدايا الجزيلة التي كان يحملها للنجاشي، وفي زيارته الأخيرة لتلك البلاد جاء ذكر لرسول الذي يهتف بالتوحيد وبمكارم الأخلاق في جزيرة العرب..
وسأل عاهل الحبشة عمرا، كيف لم يؤمن به ويتبعه، وهو رسول من الله حقا..؟؟
وسأل عمرو النجاشي قائلا:
' أهو كذلك؟؟'
وأجابه النجاشي:
' نعم، فأطعني يا عمرو واتبعه، فانه والله لعلى الحق، وليظهرنّ على من خالفه'..؟!
وركب عمرو ثبج البحر من فوره، عائدا الى بلاده، وميمّما وجهه شطر المدينة ليسلم لله رب العالمين..
وفي الطريق المقضية الى المدينة التقى بخالد بن الوليد قادما من مكة ساعيا الى الرسول ليبايعه على الاسلام..
ولك يكد الرسول يراهما قادمين حتى تهلل وجهه وقال لأصحابه:
' لقد رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها'..
وتقدم خالد فبايع..
ثم تقدم عمرو فقال:
' اني أبايعك على أن يغفر الله لي ما تقدّم من ذنبي'..
فأجابه الرسول عليه السلام قائلا:
' يا عمرو..
بايع، فان الاسلام يجبّ ما كان قبله'..
وبايع عمرو ووضع دهاءه وشجاعته في خدمة الدين الجديد.
وعندما انتقل الرسول الى الرفيق الأعلى، كان عمرو واليا على عمان..
وفي خلافة عمر أبلى بلاءه المشهود في حروب الشام، ثم في تحرير مصر من حكم الرومان.
**
وياليت عمرو بن العاص كان قد قاوم نفسه في حب الامارة..
اذن لكان قد تفوّق كثيرا على بعض المواقف التي ورّطه فيها الحب.
على أن حب عمرو الامارة، كان الى حد ما، تعبيرا تلقائيا عن طبيعته الجياشة بالمواهب..
بل ان شكله الخارجي، وطريقته في المشي وفي الحديث، كانت تومي الى أنه خلق للامارة..!! حتى لقد روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رآه ذات يوم مقبلا، فابتسم لمشيته وقال:
' ما ينبغي لأبي عبدالله أن يمشي على الأرض الا أميرا'..!
والحق أن أبا عبدالله لم يبخس نفسه هذا الحق..
وحتى حين كانت الأحداث الخطيرة تجتاح المسلمين.. كان عمرو يتعامل مع هذه الأحداث بأسلوب أمير، أمير معه من الذكاء والدهاء، والمقدرة ما يجعله واثقا بنفسه معتزا بتفوقه..!!
ولكن معه كذلك من الأمانة ما جعل عمر بن الخطاب وهو الصارم في اختيار ولاته، واليا على فلسطين والأردن، ثم على مصر طوال حياة أمير المؤمنين عمر...
حين علم أمير المؤمنين عمر أن عمرا قد جاوز في رخاء معيشته الحد الذي كان أمير المؤمنين يطلب من ولاته أن يقفوا عنده، ليظلوا دائما في مستوى، أو على الأقل قريبين من مستوى عامة الناس..
نقول: لو علم الخليفة عن عمرو كثرة رخائه، لم يعزله، انما أرسل اليه محمد بن مسلمة وأمره أن يقاسم عمرا جميع أمواله وأشيائه، فيبقي له نصفها ويحمل معه الى بيت المال بالمدينة نصفها الآخر.
ولو قد علم أمير المؤمنين أن حب عمرو للامارة، يحمله على التفريط في مسؤولياته، لما احتمل ضميره الرشيد ابقاءه في الولاية لحظة.
**
وكان عمرو رضي الله عنه حادّ الذكاء، قوي البديهة عميق الرؤية..
حتى لقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، كلما رأى انسانا عاجز الحيلة، صكّ كفيّه عجبا وقال:
' سبحان الله..!!
ان خالق هذا، وخالق عمرو بن العاص اله واحد!!
كما كان بالغ الجرأة مقداما
ولقد كان يمزج جرأته بدهائه في بعض المواطن، فيظن به الجبن أو الهلع.. بيد أنها سعة الحيلة، كان عمرو يجيد استعمالها في حذق هائل ليخرج نفسه من المآزق المهلكة..!!
ولقد كام أمير المؤمنين عمر يعرف مواهبه هذه ويقدرها قدرها، من أجل ذلك عندما أرسله الى الشام قبل مجيئه الى مصر، قيل لأمير المؤمنين: ان على رأس جيوش الروم بالشام أرطبونا أي قائدا وأميرا من الشجعان الدهاة، فكان جواب عمر:
' لقد رمينا أرطبون الروم، بأرطبون العرب، فلننظر عمّ تنفرج الأمور'..!!
ولقد انفرجت عن غلبة ساحقة لأرطبون العرب، وداهيتهم الخطير عمرو ابن العاص، على أرطبون الروم الذي ترك جيشه للهزيمة وولى هاربا الى مصر، التي سيلحقه بها عمرو بعد قليل، ليرفع فوق ربوعها الآمنة راية الاسلام.
**
وما أكثر المواقف التي تألق فيها ذكاء عمرو ودهاؤه.
واذا اردنا أن نشهد صورة لدهائه، وحذق بديهته، ففي موقفه من قائد حصن بابليون أثناء حربه مع الرومان في مصر وفي رواية تاريخية أخرى أنها الواقعة التي سنذكرها وقعت في اليرموك مع أرطبون الروم..
اذ دعاه الأرطبون والقائد ليحادثه، وكان قد أعطى أمرا لبعض رجاله بالقاء صخرة فوقه اثر انصرافه من الحصن، وأعدّ كل شيء ليكون قتل عمرو أمرا محتوما..
ودخل عمرو على القائد، لا يريبه شيء، وانفض لقاؤهما، وبينما هو في الطريق الى خارج الحصن، لمح فوق أسواره حركة مريبة حركت فيه حاسة الحذر بشدّة.
وعلى الفور تصرّف بشكل باهر.
لقد عاد الى قائد الحصن في خطوات آمنة مطمئنة وئيدة ومشاعر متهللة واثقة، كأن لم يفرّعه شيء قط، ولم يثر شكوكه أمر!!
ودخل على القائد وقال له:
لقد بادرني خاطر أردت أن أطلعك عليه.. ان معي حيث يقيم أصحابي جماعة من أصحاب الرسول السابقين الى الاسلام، لا يقطع أمير المؤمنين أمرا دونمشورتهم، ولا يرسل جيشا من جيوش الاسلام الا جعلهم على رأس مقاتلته وجنوده، وقد رأيت أن آتيك بهم، حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت، ويكونوا من الأمر على مثل ما أنا عليه من بيّنة..
وأدرك قائد الروم أن عمرا بسذاجة قد منحه فرصة العمر..!!
فليوافقه اذن على رأيه، حتى اذا عاد ومعه هذا العدد من زعماء المسلمين وخيرة رجالهم وقوادهم، أجهز عليهم جميعا، بدلا من أن يجهز على عمرو وحده..
وبطريقة غير منظورة أعطى أمره بارجاء الخطة التي كانت معدّة لاغتيال عمرو..
ودّع عمرو بحفاوة، وصافحه بحرارة،
وابتسم داهية العرب، وهو يغادر الحصن..
وفي الصباح عاد عمرو على رأس جيشه الى الحصن، ممتطيا صهوة فرسه، التي راحت تقهقه في صهيل شامت وساخر.
أجل فهي الأخرى كانت تعرف من دهاء صاحبها الشيء الكثير..!!
**
وفي السنة الثالثة والأربعين من الهجرة أدركت الوفاة عمرو بن العاص بمصر، حيث كان واليا عليها..
وراح يستعرض حياته في لحظات الرحيل فقال:
'.. كنت أول أمري كافرا.. وكنت أشد الناس على رسول الله، فلو مت يومئذ لوجبت لي النار..
ثم بايعت رسول الله، فما كان في الناس أحد أحب اليّ منه، ولا أجلّ في عيني منه.. ولو سئلت أن أنعته ما استطعت، لأني لم أكن أقدر أن أملأ عيني منه اجلالا له.. فلو متّ يومئذ لرجوت أن أكون من أهل الجنة..
ثم بليت بعد ذلك بالسلطان، وبأشياء لاأدري أهي لي أم عليّ'..
**
ثم رفع بصره الى السماء في ضراعة، مناجيا ربه الرحيم العظيم قائلا:
' اللهم لا بريء فأعتذر، ولا عزيز فأنتصر،
والا تدركني رحمتك أكن من الهالكين'!!
وظل في ضراعاته، وابتهالاته حتى صعدت الى الله روحه. وكانت آخر كلماته لا اله الا الله..
وتحت ثرى مصر، التي عرّفها عمرو طريق الاسلام، ثوى رفاته..
وفوق أرضها الصلبة، لا يزال مجلسه حيث كان يعلم، ويقضي ويحكم.. قائما عبر القرون تحت سقف مسجده العتيق جامع عمرو، أول ميجد في مصر يذكر فيه اسم الله الواحد الأحد، وأعلنت بين أرجائه ومن فوق منبره كلمات الله، ومبادئ الاسلام.
كانوا ثلاثة في قريش، اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعنف مقاومتهم دعوته وايذائهم أصحابه..
وراح الرسول يدعو عليهم، ويبتهل الى ربه الكريم أن ينزل بهم عقابه..
واذ هو يدعو ويدعو، تنزل الوحي على قلبه بهذه الآية الكريمة..
( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم، فانهم ظالمون)..
وفهم الرسول من الآية أنها أمر له بالكف عن الدعاء عليهم، وترك أمرهم الى الله وحده..
فامّا أن يظلوا على ظلمهم، فيحلّ بهم عذابه..
أو يتوب عليهم فيتوبوا، وتدركهم رحمته..
كان عمرو بن العاص أحد هؤلاء الثلاثة..
ولقد اختار الله لهم طريق التوبة والرحمة وهداهم الى الاسلام..
وتحول عمرو بن العاص الى مسلم مناضل. والى قائد من قادة الاسلام البواسل..
وعلى الرغم من بعض مواقف عمرو التي لا نستطيع أن نقتنع بوجهة نظره فيها، فان دوره كصحابيّ جليل بذل وأعطى، ونافح وكافح، سيظل يفتح على محيّاه أعيننا وقلوبنا..
وهنا في مصر بالذات، سيظل الذين يرون الاسلام دينا قيما مجيدا..
ويرون في رسوله رحمة مهداة، ونعمة موجاة، ورسول صدق عظيم، دعا الى الله على بصيرة، وألهم الحياة كثيرا من رشدها وتقاها..
سيظل الذين يحملون هذا الايمان مشحوذي الولاء للرجل الذي جعلته الأقدار سببا، وأي سبب، لاهداء الاسلام الى مصر، واهداء مصر الى الاسلام.. فنعمت الهداية ونعم مهديها..
ذلكم هو: عمرو بن العاص رضي الله عنه..
ولقد تعوّد المؤرخون أن ينعتوا عمرا بـ فاتح مصر..
بيد أنا نرى في هذا الوصف تجوزا وتجاوزا، ولعل أحق النعوت بعمرو أن ندعوه بـ محرر مصر..
فالاسلام لم يكن يفتح البلاد بالمفهوم الحديث للفتح، انما كان يحررها من تسلط امبراطوريتين سامتا العباد والبلاد سوء العذاب، تانك هما:
امبراطورية الفرس.ز وامبراطورية الروم..
ومصر بالذات، يوم أهلت عليها طلائع الاسلام كانت نهبا للرومان وكان أهلها يقاومون دون جدوى..
ولما دوّت فوق مشارف بلادهم صيحات الكتائب المؤمنة أن:
' الله أكبر..
الله أكبر'..
سارعوا جميعا في زحام مجيد صوب الفجر الوافد وعانقوه، واجدين فيه خلاصهم من قيصر ومن الرومان..
فعمرو بن العاص ورجاله، لم يفتحوا مصر اذن.. انما فتحوا الطريق أمام مصر لتصل بالحق مصايرها.. وتربط بالعدل مقاديرها.. وتجد نفسها وحقيقتها في ضوء كلمات الله، ومبادئ الاسلام..
ولقد كان رضي الله عنه حريصا على أن يباعد أهل مصر وأقباطها عن المعركة، ليظل القتال محصورا بينه وبين جنود الرومان الين يحتلون البلاد ويسرقون أرزاق أهلها..
من أجل ذلك نجده يتحدث الى زعماء النصارى يومئذ وكبار أشاقفتهم، فيقول:
'... ان الله بعث محمدا بالحق وأمره به..
وانه عليه الصلاة والسلام، قد أدّى رسالته، ومضى بعد أن تركنا على الواضحة أي الطريق الواضح المستقيم..
وكان مما أمرنا به الاعذار الى الناس، فنحن ندعوكم الى الاسلام..
فمن أجابنا، فهو منا، له ما لنا وعليه ما علينا..
ومن لم يجبنا الى الاسلام، عرضنا عليه الجزية أي الضرائب وبذلنا له الحماية والمنعة..
ولقد أخبرنا نبينا أن مصر ستفتح علينا، وأوصانا بأهلها خيرا فقال:' ستفتح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطها خيرا، فان لهم ذمّة ورحما'..
فان أجبتمونا الى ما ندعوكم اليه كانت لكم ذمة الى ذمة'...
وفرغ عمرو من كلماته، فصاح بعض الأساقفة والرهبان قائلا:
' ان الرحم التي أوصاكم بها نبيّكم، لهي قرابة بعيدة، لا يصل مثلها الا الأنبياء'..!!
وكانت هذه بداية طيبة للتفاهم المرجو بين عمرو أقباط مصر.. وان يكن قادة الرومان قد حاولوا العمل لاحباطها..
**
وعمرو بن العاص لم يكن من السابقين الى الاسلام، فقد أسلم مع خالد بن الوليد قبيل فتح مكة بقليل..
ومن عجب أن اسلامه بدأ على يد النجاشي بالحبشة وذلك أن النجاشي يعرف عمرا ويحترمه بسبب تردده الكثير على الحبشة والهدايا الجزيلة التي كان يحملها للنجاشي، وفي زيارته الأخيرة لتلك البلاد جاء ذكر لرسول الذي يهتف بالتوحيد وبمكارم الأخلاق في جزيرة العرب..
وسأل عاهل الحبشة عمرا، كيف لم يؤمن به ويتبعه، وهو رسول من الله حقا..؟؟
وسأل عمرو النجاشي قائلا:
' أهو كذلك؟؟'
وأجابه النجاشي:
' نعم، فأطعني يا عمرو واتبعه، فانه والله لعلى الحق، وليظهرنّ على من خالفه'..؟!
وركب عمرو ثبج البحر من فوره، عائدا الى بلاده، وميمّما وجهه شطر المدينة ليسلم لله رب العالمين..
وفي الطريق المقضية الى المدينة التقى بخالد بن الوليد قادما من مكة ساعيا الى الرسول ليبايعه على الاسلام..
ولك يكد الرسول يراهما قادمين حتى تهلل وجهه وقال لأصحابه:
' لقد رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها'..
وتقدم خالد فبايع..
ثم تقدم عمرو فقال:
' اني أبايعك على أن يغفر الله لي ما تقدّم من ذنبي'..
فأجابه الرسول عليه السلام قائلا:
' يا عمرو..
بايع، فان الاسلام يجبّ ما كان قبله'..
وبايع عمرو ووضع دهاءه وشجاعته في خدمة الدين الجديد.
وعندما انتقل الرسول الى الرفيق الأعلى، كان عمرو واليا على عمان..
وفي خلافة عمر أبلى بلاءه المشهود في حروب الشام، ثم في تحرير مصر من حكم الرومان.
**
وياليت عمرو بن العاص كان قد قاوم نفسه في حب الامارة..
اذن لكان قد تفوّق كثيرا على بعض المواقف التي ورّطه فيها الحب.
على أن حب عمرو الامارة، كان الى حد ما، تعبيرا تلقائيا عن طبيعته الجياشة بالمواهب..
بل ان شكله الخارجي، وطريقته في المشي وفي الحديث، كانت تومي الى أنه خلق للامارة..!! حتى لقد روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رآه ذات يوم مقبلا، فابتسم لمشيته وقال:
' ما ينبغي لأبي عبدالله أن يمشي على الأرض الا أميرا'..!
والحق أن أبا عبدالله لم يبخس نفسه هذا الحق..
وحتى حين كانت الأحداث الخطيرة تجتاح المسلمين.. كان عمرو يتعامل مع هذه الأحداث بأسلوب أمير، أمير معه من الذكاء والدهاء، والمقدرة ما يجعله واثقا بنفسه معتزا بتفوقه..!!
ولكن معه كذلك من الأمانة ما جعل عمر بن الخطاب وهو الصارم في اختيار ولاته، واليا على فلسطين والأردن، ثم على مصر طوال حياة أمير المؤمنين عمر...
حين علم أمير المؤمنين عمر أن عمرا قد جاوز في رخاء معيشته الحد الذي كان أمير المؤمنين يطلب من ولاته أن يقفوا عنده، ليظلوا دائما في مستوى، أو على الأقل قريبين من مستوى عامة الناس..
نقول: لو علم الخليفة عن عمرو كثرة رخائه، لم يعزله، انما أرسل اليه محمد بن مسلمة وأمره أن يقاسم عمرا جميع أمواله وأشيائه، فيبقي له نصفها ويحمل معه الى بيت المال بالمدينة نصفها الآخر.
ولو قد علم أمير المؤمنين أن حب عمرو للامارة، يحمله على التفريط في مسؤولياته، لما احتمل ضميره الرشيد ابقاءه في الولاية لحظة.
**
وكان عمرو رضي الله عنه حادّ الذكاء، قوي البديهة عميق الرؤية..
حتى لقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، كلما رأى انسانا عاجز الحيلة، صكّ كفيّه عجبا وقال:
' سبحان الله..!!
ان خالق هذا، وخالق عمرو بن العاص اله واحد!!
كما كان بالغ الجرأة مقداما
ولقد كان يمزج جرأته بدهائه في بعض المواطن، فيظن به الجبن أو الهلع.. بيد أنها سعة الحيلة، كان عمرو يجيد استعمالها في حذق هائل ليخرج نفسه من المآزق المهلكة..!!
ولقد كام أمير المؤمنين عمر يعرف مواهبه هذه ويقدرها قدرها، من أجل ذلك عندما أرسله الى الشام قبل مجيئه الى مصر، قيل لأمير المؤمنين: ان على رأس جيوش الروم بالشام أرطبونا أي قائدا وأميرا من الشجعان الدهاة، فكان جواب عمر:
' لقد رمينا أرطبون الروم، بأرطبون العرب، فلننظر عمّ تنفرج الأمور'..!!
ولقد انفرجت عن غلبة ساحقة لأرطبون العرب، وداهيتهم الخطير عمرو ابن العاص، على أرطبون الروم الذي ترك جيشه للهزيمة وولى هاربا الى مصر، التي سيلحقه بها عمرو بعد قليل، ليرفع فوق ربوعها الآمنة راية الاسلام.
**
وما أكثر المواقف التي تألق فيها ذكاء عمرو ودهاؤه.
واذا اردنا أن نشهد صورة لدهائه، وحذق بديهته، ففي موقفه من قائد حصن بابليون أثناء حربه مع الرومان في مصر وفي رواية تاريخية أخرى أنها الواقعة التي سنذكرها وقعت في اليرموك مع أرطبون الروم..
اذ دعاه الأرطبون والقائد ليحادثه، وكان قد أعطى أمرا لبعض رجاله بالقاء صخرة فوقه اثر انصرافه من الحصن، وأعدّ كل شيء ليكون قتل عمرو أمرا محتوما..
ودخل عمرو على القائد، لا يريبه شيء، وانفض لقاؤهما، وبينما هو في الطريق الى خارج الحصن، لمح فوق أسواره حركة مريبة حركت فيه حاسة الحذر بشدّة.
وعلى الفور تصرّف بشكل باهر.
لقد عاد الى قائد الحصن في خطوات آمنة مطمئنة وئيدة ومشاعر متهللة واثقة، كأن لم يفرّعه شيء قط، ولم يثر شكوكه أمر!!
ودخل على القائد وقال له:
لقد بادرني خاطر أردت أن أطلعك عليه.. ان معي حيث يقيم أصحابي جماعة من أصحاب الرسول السابقين الى الاسلام، لا يقطع أمير المؤمنين أمرا دونمشورتهم، ولا يرسل جيشا من جيوش الاسلام الا جعلهم على رأس مقاتلته وجنوده، وقد رأيت أن آتيك بهم، حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت، ويكونوا من الأمر على مثل ما أنا عليه من بيّنة..
وأدرك قائد الروم أن عمرا بسذاجة قد منحه فرصة العمر..!!
فليوافقه اذن على رأيه، حتى اذا عاد ومعه هذا العدد من زعماء المسلمين وخيرة رجالهم وقوادهم، أجهز عليهم جميعا، بدلا من أن يجهز على عمرو وحده..
وبطريقة غير منظورة أعطى أمره بارجاء الخطة التي كانت معدّة لاغتيال عمرو..
ودّع عمرو بحفاوة، وصافحه بحرارة،
وابتسم داهية العرب، وهو يغادر الحصن..
وفي الصباح عاد عمرو على رأس جيشه الى الحصن، ممتطيا صهوة فرسه، التي راحت تقهقه في صهيل شامت وساخر.
أجل فهي الأخرى كانت تعرف من دهاء صاحبها الشيء الكثير..!!
**
وفي السنة الثالثة والأربعين من الهجرة أدركت الوفاة عمرو بن العاص بمصر، حيث كان واليا عليها..
وراح يستعرض حياته في لحظات الرحيل فقال:
'.. كنت أول أمري كافرا.. وكنت أشد الناس على رسول الله، فلو مت يومئذ لوجبت لي النار..
ثم بايعت رسول الله، فما كان في الناس أحد أحب اليّ منه، ولا أجلّ في عيني منه.. ولو سئلت أن أنعته ما استطعت، لأني لم أكن أقدر أن أملأ عيني منه اجلالا له.. فلو متّ يومئذ لرجوت أن أكون من أهل الجنة..
ثم بليت بعد ذلك بالسلطان، وبأشياء لاأدري أهي لي أم عليّ'..
**
ثم رفع بصره الى السماء في ضراعة، مناجيا ربه الرحيم العظيم قائلا:
' اللهم لا بريء فأعتذر، ولا عزيز فأنتصر،
والا تدركني رحمتك أكن من الهالكين'!!
وظل في ضراعاته، وابتهالاته حتى صعدت الى الله روحه. وكانت آخر كلماته لا اله الا الله..
وتحت ثرى مصر، التي عرّفها عمرو طريق الاسلام، ثوى رفاته..
وفوق أرضها الصلبة، لا يزال مجلسه حيث كان يعلم، ويقضي ويحكم.. قائما عبر القرون تحت سقف مسجده العتيق جامع عمرو، أول ميجد في مصر يذكر فيه اسم الله الواحد الأحد، وأعلنت بين أرجائه ومن فوق منبره كلمات الله، ومبادئ الاسلام.
Ahmed Emad- 931
رد: رجال حول الرسول(صلى الله عليه وسلم)
عبادة بن الصامت - نقيب في حزب الله
نه واحد من الأنصار الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
' لو أن الأنصار سلكوا واديا أو شعبا، لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، ولولا الهجرة لكنت من أمراء الأنصار'..طوعبادة بن الصامت بعد كونه من الأنصار، فهو واحد من زعمائهم الذين اتخذهم نقباء على أهليهم وعشائرهم...
وحينما جاء وفد الأنصار الأول الى مكة ليبايع الرسول عليه السلام، تلك البيعة المشهورة بـ بيعة العقبة الأولى، كان عبادة بن الصامت رضي الله عنه أحد الاثني عشر مؤمنا، الذين سارعوا الى الاسلام، وبسطوا أيمانهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعين، وشدّوا على يمينه مؤازرين ومسلمين...
وحينما كان موعد الحج في العام التالي، يشهد بيعة العقبة الثانية يبابعها وفد الأنصار الثاني، مكّونا من سبعين مؤمنا ومؤمنة، كان عبادة أيضا من زعماء الوفد ونقباء الأنصار..
وفيما بعد والمشاهد تتوالى.. ومواقف التضحية والبذل، والفداء تتابع، كان عبادة هناك لم يتخلف عن مشهد ولم يبخل بتضحية...
ومنذ اختار الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقوم على أفضل وجه بتبعات هذا الاختيار..
كل ولائه لله، وكل طاعته لله، وكلا علاقته بأقربائه بحلفائه وبأعدائه انما يشكلها ايمانه ويشكلها السلوك الذي يفرضه هذا الايمان..
كانت عائلة عبادة مرتبطة بحلف قديم مع يهود بني قينقاع بالمدينة..
زمنذ هاجر الرسول وأصحابه الى المدينة، ويهودها يتظاهرون بمسالمته.. حتى كانت الأيام التي تعقب غزوة بدر وتسبق غزوة أحد، فشرع يهود المدينة يتنمّرون..
وافتعلت احدى قبائلهم بنو قينقاع أسبابا للفتنة وللشغب على المسلمين..
ولا يكذد عبادة يرى موقفهم هذا، حتى ينبذ الى عهدهم ويفسخ حلفهم قائلا:
' انما أتولى الله، ورسوله، والمؤمنين...
فيتنزل القرآن محييا موقفه وولاءه، قائلا في آياته:
( ومن يتولى الله ورسوله، والذين آمنوا، فان حزب الله هم الغالبون)...
**
لقد أعلنت الآية الكريمة قيام حزب الله..
وحزب الله، هم أولئك المؤمنون الذين ينهضون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملين راية الهدى والحق، والذين يشكلون امتدادا مباركا لصفوف المؤمنين الذين سبقوهم عبر التاريخ حول أنبيائهم ورسلهم، مبلّغين في أزمانهم وأعصارهم كلمة الله الحي القيّوم..
ولن يقتصر حزب الله على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل سيمتد عبر الأجيال الوافدة، والأزمنة المقبلة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ضمّا الى صفوفه كل مؤمن بالله وبرسوله..
وهكذا فان الرجل الذي نزلت هذه الآية الكريمة تحيي موقفه وتشيد بولائه وايمانه، لن يظل مجرّد نقيب الأنصار في المدينة، بل سيصير نقيبا من نقباء الدين الذي ستزوى له أقطار الأرض جميعا.
أجل لقد أصبحعبادة بن الصامت نقيب عشيرته من الخزرج، رائدا من روّاد الاسلام، وامام من أئمة المسلمين يخفق اسمه كالراية في معظم أقطار الأرض لا في جبل، ولا في جبلين، أو ثلاثة بل الى ما شاء الله من أجيال.. ومن أزمان.. ومن آماد..!!
**
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يتحدث عن مسؤلية الأمراء والولاة..
سمعه يتحدث عليه الصلاة والسلام، عن المصير الذي ينتظر من يفرّط منهم في الحق، أو تعبث ذمته بمال، فزلزل زلزالا، وأقسم بالله ألا يكون أميرا على أثنين أبدا..
ولقد برّ بقسمه..
وفي خلافة أمير المؤمنين عمر ؤضي الله عنه، لم يستطع الفاروق أن يحمله على قبول منصب ما، الا تعليم الانس وتفقيههم في الدين.
أجل هذا هو العمل الوحيد الذي آثره عبادة، مبتعدا بنفسه عن الأعمال الأخرى، المحفوفة بالزهو وبالسلطان وبالثراء، والمحفوفة أيضا بالأخطار التي يخشاها على مصيره ودينه
وهكذا سافر الى الشام ثالث ثلاثة: هو ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء.. حيث ملؤا البلاد علما وفقها ونورا...
وسافر عبادة الى فلسطين حيث ولي قضاءها بعض الوقت وكان يحكمها باسم الخليفة آنذاك، معاوية..
**
كان عبادة بن الصامت وهو ثاو في الشام يرنو ببصره الى ما وراء الحدود.. الى المدينة المنورة عاصمة السلام ودار الخلافة، فيرى فيها عمر ابن الخطاب..رجل لم يخلق من طرازه سواه..!!
ثم يرتد بصره الى حيث يقيم، في فلسطين.. فيرى معاوية بن أبي سفيان..رجل يحب الدنيا، ويعشق السلطان...
وعبادة من الرعيل الأول الذي عاش خير حياته وأعظمها وأثراها مع الرسول الكريم.. الرّعيل الذي صهره النضال وصقلته التضحية، وعانق الاسلام رغبا لا رهبا.. وباع نفسه وماله...
عبادة من الرعيل الذي رباه محمد بيديه، وأفرغ عليه من روحه ونوره وعظمته..
واذا كان هناك من الأحياء مثل أعلى للحاكم يملأ نفس عبادة روعة، وقلبه ثقة، فهو ذلك الرجل الشاهق الرابض هناك في المدينة.. عمر بن الخطاب..
فاذا مضى عبادة يقيس تصرّفات معاوية بهذا المقياس، فستكون الشقة بين الاثنين واسعة، وسيكون الصراع محتوما.. وقد كان..!!
**
يقول عبادة رضي الله عنه:
' بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا نخاف في الله لومة لائم'..
وعبادة خير من يفي بالبيعة. واذن فهو لن يخشى معاوية بكا سلطانه، وسيقف بالمرصاد لكل أخطائه..
ولقد شهد أهل فلسطين يومئذ عجبا.. وترامت أنباء المعارضة الجسورة التي يشنّها عبادة على معاوية الى أقطار كثيرة من بلاد الاسلام فكانت قدوة ونبراسا..
وعلى الرغم من الحلم الواسع الرحيب الذي اشتهر به معاوية فقد ضاق صدره بمواقف عبادة ورأى فيها تهديدا مباشرا لهيبة سلطانه..
ورأى عبادة من جانبه أن مسافة الخلف بينه وبين معاوية تزداد وتتسع، فقال لمعاوية:' والله لا أساكنك أرضا واحدة أبدا'.. وغادر فلسطين الى المدينة..
**
كان أمير المؤمنين عمر، عظيم الفطنة، بعيد النظر.. وكان حريصا على ألا يدع أمثال معاوية من الولاة الذين يعتمدون على ذكائهم ويستعملونه بغير حساب دون أن يحيطهم بنفر من الصحابة الورعين الزاهدين والنصحاء المخلصين، كي يكبحوا جماح الطموح والرغبة لدى أولئك الولاة، وكي يكونوا لهم وللناس تذكرة دائمة بأيام الرسول وعهده..
من أجل هذا لم يكد أمير المؤمنين يبصر عبادة بن الصامت وقد عاد الى المدينة حتى ساله:' ما الذي جاء بك يا عبادة'...؟؟ ولما قصّ عليه ما كان بينه وبين معاوية قال له عمر:
' ارجع الى مكانك، فقبّح الله أرضا ليس فيها مثلك..!!
ثم أرسل عمر الى معاوية كتابا يقول فيه:
' لا امرة لك على عبادة'..!!
أجل ان عبادة أمير نفسه..
وحين يكرّم عمر الفاروق رجلا مثل هذا التكريم، فانه يكون عظيما..
وقد كان عبادة عظيما في ايمانه، وفي استقامة ضميره وحياته...
**
وفي العام الهجري الرابع والثلاثين، توفي بالرملة في أرض فلسطين هذا النقيب الراشد من نقباء الأنصار والاسلام، تاركا في الحياة عبيره وشذاه...
نه واحد من الأنصار الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
' لو أن الأنصار سلكوا واديا أو شعبا، لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، ولولا الهجرة لكنت من أمراء الأنصار'..طوعبادة بن الصامت بعد كونه من الأنصار، فهو واحد من زعمائهم الذين اتخذهم نقباء على أهليهم وعشائرهم...
وحينما جاء وفد الأنصار الأول الى مكة ليبايع الرسول عليه السلام، تلك البيعة المشهورة بـ بيعة العقبة الأولى، كان عبادة بن الصامت رضي الله عنه أحد الاثني عشر مؤمنا، الذين سارعوا الى الاسلام، وبسطوا أيمانهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعين، وشدّوا على يمينه مؤازرين ومسلمين...
وحينما كان موعد الحج في العام التالي، يشهد بيعة العقبة الثانية يبابعها وفد الأنصار الثاني، مكّونا من سبعين مؤمنا ومؤمنة، كان عبادة أيضا من زعماء الوفد ونقباء الأنصار..
وفيما بعد والمشاهد تتوالى.. ومواقف التضحية والبذل، والفداء تتابع، كان عبادة هناك لم يتخلف عن مشهد ولم يبخل بتضحية...
ومنذ اختار الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقوم على أفضل وجه بتبعات هذا الاختيار..
كل ولائه لله، وكل طاعته لله، وكلا علاقته بأقربائه بحلفائه وبأعدائه انما يشكلها ايمانه ويشكلها السلوك الذي يفرضه هذا الايمان..
كانت عائلة عبادة مرتبطة بحلف قديم مع يهود بني قينقاع بالمدينة..
زمنذ هاجر الرسول وأصحابه الى المدينة، ويهودها يتظاهرون بمسالمته.. حتى كانت الأيام التي تعقب غزوة بدر وتسبق غزوة أحد، فشرع يهود المدينة يتنمّرون..
وافتعلت احدى قبائلهم بنو قينقاع أسبابا للفتنة وللشغب على المسلمين..
ولا يكذد عبادة يرى موقفهم هذا، حتى ينبذ الى عهدهم ويفسخ حلفهم قائلا:
' انما أتولى الله، ورسوله، والمؤمنين...
فيتنزل القرآن محييا موقفه وولاءه، قائلا في آياته:
( ومن يتولى الله ورسوله، والذين آمنوا، فان حزب الله هم الغالبون)...
**
لقد أعلنت الآية الكريمة قيام حزب الله..
وحزب الله، هم أولئك المؤمنون الذين ينهضون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملين راية الهدى والحق، والذين يشكلون امتدادا مباركا لصفوف المؤمنين الذين سبقوهم عبر التاريخ حول أنبيائهم ورسلهم، مبلّغين في أزمانهم وأعصارهم كلمة الله الحي القيّوم..
ولن يقتصر حزب الله على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل سيمتد عبر الأجيال الوافدة، والأزمنة المقبلة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ضمّا الى صفوفه كل مؤمن بالله وبرسوله..
وهكذا فان الرجل الذي نزلت هذه الآية الكريمة تحيي موقفه وتشيد بولائه وايمانه، لن يظل مجرّد نقيب الأنصار في المدينة، بل سيصير نقيبا من نقباء الدين الذي ستزوى له أقطار الأرض جميعا.
أجل لقد أصبحعبادة بن الصامت نقيب عشيرته من الخزرج، رائدا من روّاد الاسلام، وامام من أئمة المسلمين يخفق اسمه كالراية في معظم أقطار الأرض لا في جبل، ولا في جبلين، أو ثلاثة بل الى ما شاء الله من أجيال.. ومن أزمان.. ومن آماد..!!
**
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يتحدث عن مسؤلية الأمراء والولاة..
سمعه يتحدث عليه الصلاة والسلام، عن المصير الذي ينتظر من يفرّط منهم في الحق، أو تعبث ذمته بمال، فزلزل زلزالا، وأقسم بالله ألا يكون أميرا على أثنين أبدا..
ولقد برّ بقسمه..
وفي خلافة أمير المؤمنين عمر ؤضي الله عنه، لم يستطع الفاروق أن يحمله على قبول منصب ما، الا تعليم الانس وتفقيههم في الدين.
أجل هذا هو العمل الوحيد الذي آثره عبادة، مبتعدا بنفسه عن الأعمال الأخرى، المحفوفة بالزهو وبالسلطان وبالثراء، والمحفوفة أيضا بالأخطار التي يخشاها على مصيره ودينه
وهكذا سافر الى الشام ثالث ثلاثة: هو ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء.. حيث ملؤا البلاد علما وفقها ونورا...
وسافر عبادة الى فلسطين حيث ولي قضاءها بعض الوقت وكان يحكمها باسم الخليفة آنذاك، معاوية..
**
كان عبادة بن الصامت وهو ثاو في الشام يرنو ببصره الى ما وراء الحدود.. الى المدينة المنورة عاصمة السلام ودار الخلافة، فيرى فيها عمر ابن الخطاب..رجل لم يخلق من طرازه سواه..!!
ثم يرتد بصره الى حيث يقيم، في فلسطين.. فيرى معاوية بن أبي سفيان..رجل يحب الدنيا، ويعشق السلطان...
وعبادة من الرعيل الأول الذي عاش خير حياته وأعظمها وأثراها مع الرسول الكريم.. الرّعيل الذي صهره النضال وصقلته التضحية، وعانق الاسلام رغبا لا رهبا.. وباع نفسه وماله...
عبادة من الرعيل الذي رباه محمد بيديه، وأفرغ عليه من روحه ونوره وعظمته..
واذا كان هناك من الأحياء مثل أعلى للحاكم يملأ نفس عبادة روعة، وقلبه ثقة، فهو ذلك الرجل الشاهق الرابض هناك في المدينة.. عمر بن الخطاب..
فاذا مضى عبادة يقيس تصرّفات معاوية بهذا المقياس، فستكون الشقة بين الاثنين واسعة، وسيكون الصراع محتوما.. وقد كان..!!
**
يقول عبادة رضي الله عنه:
' بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا نخاف في الله لومة لائم'..
وعبادة خير من يفي بالبيعة. واذن فهو لن يخشى معاوية بكا سلطانه، وسيقف بالمرصاد لكل أخطائه..
ولقد شهد أهل فلسطين يومئذ عجبا.. وترامت أنباء المعارضة الجسورة التي يشنّها عبادة على معاوية الى أقطار كثيرة من بلاد الاسلام فكانت قدوة ونبراسا..
وعلى الرغم من الحلم الواسع الرحيب الذي اشتهر به معاوية فقد ضاق صدره بمواقف عبادة ورأى فيها تهديدا مباشرا لهيبة سلطانه..
ورأى عبادة من جانبه أن مسافة الخلف بينه وبين معاوية تزداد وتتسع، فقال لمعاوية:' والله لا أساكنك أرضا واحدة أبدا'.. وغادر فلسطين الى المدينة..
**
كان أمير المؤمنين عمر، عظيم الفطنة، بعيد النظر.. وكان حريصا على ألا يدع أمثال معاوية من الولاة الذين يعتمدون على ذكائهم ويستعملونه بغير حساب دون أن يحيطهم بنفر من الصحابة الورعين الزاهدين والنصحاء المخلصين، كي يكبحوا جماح الطموح والرغبة لدى أولئك الولاة، وكي يكونوا لهم وللناس تذكرة دائمة بأيام الرسول وعهده..
من أجل هذا لم يكد أمير المؤمنين يبصر عبادة بن الصامت وقد عاد الى المدينة حتى ساله:' ما الذي جاء بك يا عبادة'...؟؟ ولما قصّ عليه ما كان بينه وبين معاوية قال له عمر:
' ارجع الى مكانك، فقبّح الله أرضا ليس فيها مثلك..!!
ثم أرسل عمر الى معاوية كتابا يقول فيه:
' لا امرة لك على عبادة'..!!
أجل ان عبادة أمير نفسه..
وحين يكرّم عمر الفاروق رجلا مثل هذا التكريم، فانه يكون عظيما..
وقد كان عبادة عظيما في ايمانه، وفي استقامة ضميره وحياته...
**
وفي العام الهجري الرابع والثلاثين، توفي بالرملة في أرض فلسطين هذا النقيب الراشد من نقباء الأنصار والاسلام، تاركا في الحياة عبيره وشذاه...
Ahmed Emad- 931
رد: رجال حول الرسول(صلى الله عليه وسلم)
معاذ بن جبل - أعلمهم بالحلال والحرام
ندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبابع الأنصار بيعة العقبة الثانية. كان يجلس بين السبعين الذين يتكوّن منهم وفدهم، شاب مشرق الوجه، رائع النظرة، برّاق الثنايا.. يبهر الأبصار بهوئه وسمته. فاذا تحدّث ازدادت الأبصار انبهارا..!!
ذلك كان معاذ بن جبل رضي الله عنه..
هو اذن رجل من الأنصار، بايع يوم العقبة الثانية، فصار من السابقين الأولين.
ورجل له مثل اسبقيته، ومثل ايمانه ويقينه، لا يتخلف عن رسول الله في مشهد ولا في غزاة. وهكذا صنع معاذ..
على أن آلق مزاياه، وأعظم خصائصه، كان فقهه..
بلغ من الفقه والعلم المدى الذي جعله أهلا لقول الرسول عنه:
' أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل'..
وكان شبيه عمر بن الخطاب في استنارة عقله، وشجاعة ذكائه. سألأه الرسول حين وجهه الى اليمن:
' بما تقضي يا معاذ؟'
فأجابه قائلا: ' بكتاب الله'..
قال الرسول: ' فان لم تجد في كتاب الله'..؟
'أقضي بسنة رسوله'..
قال الرسول: ' فان لم تجد في سنة رسوله'..؟
قال معاذ:' أجتهد رأيي، ولا آلوا'..
فتهلل وجه الرسول وقال:
' الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله'.
فولاء معاذ لكتاب الله، ولسنة رسوله لا يحجب عقله عن متابعة رؤاه، ولا يحجب عن عقله تلك الحقائق الهائلة المتسرّة، التي تنتظر من يكتشفها ويواجهها.
ولعل هذه القدرة على الاجتهاد، والشجاعة في استعمال الذكاء والعقل، هما اللتان مكنتا معاذا من ثرائه الفقهي الذي فاق به أقرانه واخوانه، صار كما وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام ' أعلم الناس بالحلال والحرام'.
وان الروايات التاريخية لتصوره العقل المضيء الحازم الذي يحسن الفصل في الأمور..
فهذا عائذ الله بن عبدالله يحدثنا انه دخل المسجد يوما مع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أول خلافة عمر..قال:
' فجلست مجلسا فيه بضع وثلاثون، كلهم يذكرون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحلقة شاب شديد الأدمة، حلو المنطق، وضيء، وهو أشبّ القوم سنا، فاذا اشتبه عليهم من الحديث شيء ردّوه اليه فأفتاهم، ولا يحدثهم الا حين يسألونه، ولما قضي مجلسهم دنوت منه وسالته: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا معاذ بن جبل'.
وهذا أبو مسلم الخولاني يقول:
' دخلت مسجد حمص فاذا جماعة من الكهول يتوسطهم شاب برّاق الثنايا، صامت لا يتكلم.ز فاذا امترى القوم في شيء توجهوا اليه يسألونه.ز فقلت لجليس لي: من هذا..؟ قال: معاذ بن جبل.. فوقع في نفسي حبه'.
وهذا شهر بن حوشب يقول:
' كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل، نظروا اليه هيبة له'..
ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يستثيره كثيرا..
وكان يقول في بض المواطن التي يستعين بها برأي معاذ وفقهه:
' لولا معاذ بن جبل لهلك عكر'..
ويبدو أن معاذ كان يمتلك عقلا أحسن تدريبه، ومنطقا آسرا مقنعا، ينساب في هدوء واحاطة..
فحيثما نلتقي به من خلال الروايات التاريخية عنه، نجده كما أسلفنا واسط العقد..
فهو دائما جالس والناس حوله.. وهو صموت، لا يتحدث الا على شوق الجالسين الى حديثه..
واذا اختلف الجالسون في أمر، أعادوه الى معاذ لبفصل فيه..
فاذا تكلم، كان كما وصفه أحد معاصريه:
' كأنما يخرج من فمه نور ولؤلؤ'..
ولقد بلغ كل هذه المنزلة في علمه، وفي اجلال المسلمين له، أيام الرسول وبعد مماته، وهو شاب.. فلقد مات معاذ في خلافة عمر ولم يجاوز من العمر ثلاثا وثلاثين سنة..!!
وكان معاذ سمح اليد، والنفس، والخلق..
فلا يسأل عن شيء الا أعطاه جزلان مغتبطا..ولقد ذهب جوده وسخاؤه بكل ماله.
ومات الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعاذ باليمن منذ وجهه النبي اليها يعلم المسلمين ويفقههم في الدين..
وفي خلافة أبي بكر رجع معاذ من اليمن، وكان عمر قد علم أن معاذا أثرى.. فاقترح على الخليفة أبي بكر أن يشاطره ثروته وماله..!
ولم ينتظر عمر، بل نهض مسرعا الى دار معاذ وألقى عليه مقالته..
كان معاذ ظاهر الكف، طاهر الذمة، ولئن كان قد أثري، فانه لم يكتسب اثما، ولم يقترف شبهة، ومن ثم فقد رفض عرض عمر، وناقشه رأيه..
وتركه عمر وانصرف..
وفي الغداة، كان معاذ يطوي الأرض حثيثا شطر دار عمر..
ولا يكاد يلقاه.. حتى يعنقه ودموعه تسبق كلماته وتقول:
' لقد رأيت الليلة في منامي أني أخوض حومة ماء، أخشى على نفسي الغرق.. حتى جئت وخلصتني يا عمر'..
وذهبا معا الى أبي بكر.. وطلب اليه معاذ أن يشاطره ماله، فقال أبو بكر:' لا آخذ منك شيئا'..
فنظر عمر الى معاذ وقال:' الآن حلّ وطاب'..
ما كان أبو بكر الورع ليترك لمعاذ درهما واحدا، لو علم أنه أخذه بغير حق..
وما كان عمر متجنيا على معاذ بتهمة أو ظن..
وانما هو عصر المثل كان يزخر بقوم يتسابقون الى ذرى الكمال الميسور، فمنهم الطائر المحلق، ومنهم المهرول، ومنهم المقتصد.. ولكنهم جميعا في قافلة الخير سائرون.
**
ويهاجر معاذ الى الشام، حيث يعيش بين أهلها والوافدين عليها معلما وفقيها، فاذا مات أميرها أبو عبيدة الذي كان الصديق الحميم لمعاذ، استخلفه أمير المؤمنين عمر على الشام، ولا يمضي عليه في الامارة سوى بضعة أشهر حتى يلقى ربه مخبتا منيبا..
وكان عمر رضي الله عنه يقول:
' لو استخلفت معاذ بن جبل، فسألني ربي: لماذا استخلفته؟ لقلت: سمعن نبيك يقول: ان العلماء اذا حضروا ربهم عز وجل ، كان معاذ بين أيديهم'..
والاستخلاف الذي يعنيه عمر هنا، هو الاستخلاف على المسلمين جميعا، لا على بلد أو ولاية..
فلقد سئل عمر قبل موته: لو عهدت الينا..؟ أي اختر خليفتك بنفسك وبايعناك عليه..
لإاجاب قائلا:
' لو كان معاذ بن جبل حيا، ووليته ثم قدمت على ربي عز وجل، فسألني: من ولّيت على أمة محمد، لقلت: ولّيت عليهم معاذ بن جبل، بعد أن سمعت النبي يقول: معاذ بن جبل امام العلماء يوم القيامة'.
**
قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوما:
' يا معاذ.. والله اني لأحبك فلا تنس أن تقول في عقب كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك'..
أجل اللهم أعنّي.. فقد كان الرسول دائب الالحاح بهذا المعنى العظيم الذي يدرك الناس به أنه لا حول لهم ولا قوة، ولا سند ولا عون الا بالله، ومن الله العلي العظيم..
ولقد حذق معاذ لدرس وأجاد تطبيقه..
لقيه الرسول ذات صباح فسأله:
'كيف أصبحت يامعاذ'..؟؟
قال:
' أصبحت مؤمنا حقا يا رسول الله'.
قال النبي:
:ان لكل حق حقيقة، فما حقيقة ايمانك'..؟؟
قال معاذ:
' ما أصبحت قط، الا ظننت أني لا أمسي.. ولا أمسيت مساء الا ظننت أني لا أصبح..
ولا خطوت خطوة الا ظننت أني لا أتبعها غيرها..
وكأني أنظر الى كل امة جاثية تدعى الى كتابها..
وكأني أرى أهل الجنة في الجنة ينعمون..
وأهل النار في النار يعذبون..'
فقال له الرسول:
' عرفت فالزم'..
أجل لقد أسلم معاذ كل نفسه وكل مصيره لله، فلم يعد يبصر شيئا سواه..
ولقد أجاد ابن مسعود وصفه حين قال:
'ان معاذا كان أمّة، قانتا لله حنيفا، ولقد كنا نشبّه معاذا بابراهيم عليه السلام'..
**
وكان معاذ دائب الدعوة الى العلم، والى ذكر الله..
وكان يدعو الناس الى التماس العلم الصحيح النافع ويقول:
' احذروا زيغ الحكيم.. وارفوا الحق بالحق، فان الحق نورا'..!!
وكان يرى العبادة قصدا، وعدلا..
قال له يوما أحد المسلمين: علمني.
قال معاذ: وهل أنت مطيعي اذا علمتك..؟
قال الرجل: اني على طاعتك لحريص..
فقال له معاذ:
' صم وافطر..
وصلّ ونم..
واكتسب ولا تأثم.
ولا تموتنّ الا مسلما..
واياك ودعوة المظلوم'..
وكان يرى العلم معرفة، وعملا فيقول:
' تعلموا ما شئتم أن تتعلموا، فلن ينفعكم الله بالعلم جتى تعملوا'..
وكان يرى الايمان بالله وذكره، استحضارا دائما لعظمته، ومراجعة دائمة لسلوك النفس.
يقول الأسود بن هلال:
' كنا نمشي مع معاذ، فقال لنا: اجلسوا بنا نؤمن ساعة'..
ولعل سبب صمته الكثير كان راجعا الى عملية التأمل والتفكر التي لا تهدأ ولا تكف داخل نفسه.. هذا الذي كان كما قال للرسول: لا يخطو خطوة، ويظن أنه سيتبعها بأخرى.. وذلك من فرط استغراقه في ذكره ربه، واستغراقه في محاسبته نفسه..
**
وحان أجل معاذ، ودعي للقاء الله...
وفي سكرات الموت تنطلق عن اللاشعور حقيقة كل حي، وتجري على لسانه ،ان استكاع الحديث، كلمات تلخص أمره وحياته..
وفي تلك اللحظات قال معاذ كلمات عظيمة تكشف عن مؤمن عظيم.
فقد كان يحدق في السماء ويقول مناجيا ربه الرحيم:
' الهم اني كنت أخافك، لكنني اليوم أرجوك، اللهم انك تعلم أني لم أكن أحبّ الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار.. ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ونيل المزيد من العلم والايمان والطاعة'..
وبسط يمينه كأنه يصافح الموت، وراح في غيبوبته يقول:
' مرحبا بالموت..
حبيب جاء على فاقه'..
ندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبابع الأنصار بيعة العقبة الثانية. كان يجلس بين السبعين الذين يتكوّن منهم وفدهم، شاب مشرق الوجه، رائع النظرة، برّاق الثنايا.. يبهر الأبصار بهوئه وسمته. فاذا تحدّث ازدادت الأبصار انبهارا..!!
ذلك كان معاذ بن جبل رضي الله عنه..
هو اذن رجل من الأنصار، بايع يوم العقبة الثانية، فصار من السابقين الأولين.
ورجل له مثل اسبقيته، ومثل ايمانه ويقينه، لا يتخلف عن رسول الله في مشهد ولا في غزاة. وهكذا صنع معاذ..
على أن آلق مزاياه، وأعظم خصائصه، كان فقهه..
بلغ من الفقه والعلم المدى الذي جعله أهلا لقول الرسول عنه:
' أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل'..
وكان شبيه عمر بن الخطاب في استنارة عقله، وشجاعة ذكائه. سألأه الرسول حين وجهه الى اليمن:
' بما تقضي يا معاذ؟'
فأجابه قائلا: ' بكتاب الله'..
قال الرسول: ' فان لم تجد في كتاب الله'..؟
'أقضي بسنة رسوله'..
قال الرسول: ' فان لم تجد في سنة رسوله'..؟
قال معاذ:' أجتهد رأيي، ولا آلوا'..
فتهلل وجه الرسول وقال:
' الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله'.
فولاء معاذ لكتاب الله، ولسنة رسوله لا يحجب عقله عن متابعة رؤاه، ولا يحجب عن عقله تلك الحقائق الهائلة المتسرّة، التي تنتظر من يكتشفها ويواجهها.
ولعل هذه القدرة على الاجتهاد، والشجاعة في استعمال الذكاء والعقل، هما اللتان مكنتا معاذا من ثرائه الفقهي الذي فاق به أقرانه واخوانه، صار كما وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام ' أعلم الناس بالحلال والحرام'.
وان الروايات التاريخية لتصوره العقل المضيء الحازم الذي يحسن الفصل في الأمور..
فهذا عائذ الله بن عبدالله يحدثنا انه دخل المسجد يوما مع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أول خلافة عمر..قال:
' فجلست مجلسا فيه بضع وثلاثون، كلهم يذكرون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحلقة شاب شديد الأدمة، حلو المنطق، وضيء، وهو أشبّ القوم سنا، فاذا اشتبه عليهم من الحديث شيء ردّوه اليه فأفتاهم، ولا يحدثهم الا حين يسألونه، ولما قضي مجلسهم دنوت منه وسالته: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا معاذ بن جبل'.
وهذا أبو مسلم الخولاني يقول:
' دخلت مسجد حمص فاذا جماعة من الكهول يتوسطهم شاب برّاق الثنايا، صامت لا يتكلم.ز فاذا امترى القوم في شيء توجهوا اليه يسألونه.ز فقلت لجليس لي: من هذا..؟ قال: معاذ بن جبل.. فوقع في نفسي حبه'.
وهذا شهر بن حوشب يقول:
' كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل، نظروا اليه هيبة له'..
ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يستثيره كثيرا..
وكان يقول في بض المواطن التي يستعين بها برأي معاذ وفقهه:
' لولا معاذ بن جبل لهلك عكر'..
ويبدو أن معاذ كان يمتلك عقلا أحسن تدريبه، ومنطقا آسرا مقنعا، ينساب في هدوء واحاطة..
فحيثما نلتقي به من خلال الروايات التاريخية عنه، نجده كما أسلفنا واسط العقد..
فهو دائما جالس والناس حوله.. وهو صموت، لا يتحدث الا على شوق الجالسين الى حديثه..
واذا اختلف الجالسون في أمر، أعادوه الى معاذ لبفصل فيه..
فاذا تكلم، كان كما وصفه أحد معاصريه:
' كأنما يخرج من فمه نور ولؤلؤ'..
ولقد بلغ كل هذه المنزلة في علمه، وفي اجلال المسلمين له، أيام الرسول وبعد مماته، وهو شاب.. فلقد مات معاذ في خلافة عمر ولم يجاوز من العمر ثلاثا وثلاثين سنة..!!
وكان معاذ سمح اليد، والنفس، والخلق..
فلا يسأل عن شيء الا أعطاه جزلان مغتبطا..ولقد ذهب جوده وسخاؤه بكل ماله.
ومات الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعاذ باليمن منذ وجهه النبي اليها يعلم المسلمين ويفقههم في الدين..
وفي خلافة أبي بكر رجع معاذ من اليمن، وكان عمر قد علم أن معاذا أثرى.. فاقترح على الخليفة أبي بكر أن يشاطره ثروته وماله..!
ولم ينتظر عمر، بل نهض مسرعا الى دار معاذ وألقى عليه مقالته..
كان معاذ ظاهر الكف، طاهر الذمة، ولئن كان قد أثري، فانه لم يكتسب اثما، ولم يقترف شبهة، ومن ثم فقد رفض عرض عمر، وناقشه رأيه..
وتركه عمر وانصرف..
وفي الغداة، كان معاذ يطوي الأرض حثيثا شطر دار عمر..
ولا يكاد يلقاه.. حتى يعنقه ودموعه تسبق كلماته وتقول:
' لقد رأيت الليلة في منامي أني أخوض حومة ماء، أخشى على نفسي الغرق.. حتى جئت وخلصتني يا عمر'..
وذهبا معا الى أبي بكر.. وطلب اليه معاذ أن يشاطره ماله، فقال أبو بكر:' لا آخذ منك شيئا'..
فنظر عمر الى معاذ وقال:' الآن حلّ وطاب'..
ما كان أبو بكر الورع ليترك لمعاذ درهما واحدا، لو علم أنه أخذه بغير حق..
وما كان عمر متجنيا على معاذ بتهمة أو ظن..
وانما هو عصر المثل كان يزخر بقوم يتسابقون الى ذرى الكمال الميسور، فمنهم الطائر المحلق، ومنهم المهرول، ومنهم المقتصد.. ولكنهم جميعا في قافلة الخير سائرون.
**
ويهاجر معاذ الى الشام، حيث يعيش بين أهلها والوافدين عليها معلما وفقيها، فاذا مات أميرها أبو عبيدة الذي كان الصديق الحميم لمعاذ، استخلفه أمير المؤمنين عمر على الشام، ولا يمضي عليه في الامارة سوى بضعة أشهر حتى يلقى ربه مخبتا منيبا..
وكان عمر رضي الله عنه يقول:
' لو استخلفت معاذ بن جبل، فسألني ربي: لماذا استخلفته؟ لقلت: سمعن نبيك يقول: ان العلماء اذا حضروا ربهم عز وجل ، كان معاذ بين أيديهم'..
والاستخلاف الذي يعنيه عمر هنا، هو الاستخلاف على المسلمين جميعا، لا على بلد أو ولاية..
فلقد سئل عمر قبل موته: لو عهدت الينا..؟ أي اختر خليفتك بنفسك وبايعناك عليه..
لإاجاب قائلا:
' لو كان معاذ بن جبل حيا، ووليته ثم قدمت على ربي عز وجل، فسألني: من ولّيت على أمة محمد، لقلت: ولّيت عليهم معاذ بن جبل، بعد أن سمعت النبي يقول: معاذ بن جبل امام العلماء يوم القيامة'.
**
قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوما:
' يا معاذ.. والله اني لأحبك فلا تنس أن تقول في عقب كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك'..
أجل اللهم أعنّي.. فقد كان الرسول دائب الالحاح بهذا المعنى العظيم الذي يدرك الناس به أنه لا حول لهم ولا قوة، ولا سند ولا عون الا بالله، ومن الله العلي العظيم..
ولقد حذق معاذ لدرس وأجاد تطبيقه..
لقيه الرسول ذات صباح فسأله:
'كيف أصبحت يامعاذ'..؟؟
قال:
' أصبحت مؤمنا حقا يا رسول الله'.
قال النبي:
:ان لكل حق حقيقة، فما حقيقة ايمانك'..؟؟
قال معاذ:
' ما أصبحت قط، الا ظننت أني لا أمسي.. ولا أمسيت مساء الا ظننت أني لا أصبح..
ولا خطوت خطوة الا ظننت أني لا أتبعها غيرها..
وكأني أنظر الى كل امة جاثية تدعى الى كتابها..
وكأني أرى أهل الجنة في الجنة ينعمون..
وأهل النار في النار يعذبون..'
فقال له الرسول:
' عرفت فالزم'..
أجل لقد أسلم معاذ كل نفسه وكل مصيره لله، فلم يعد يبصر شيئا سواه..
ولقد أجاد ابن مسعود وصفه حين قال:
'ان معاذا كان أمّة، قانتا لله حنيفا، ولقد كنا نشبّه معاذا بابراهيم عليه السلام'..
**
وكان معاذ دائب الدعوة الى العلم، والى ذكر الله..
وكان يدعو الناس الى التماس العلم الصحيح النافع ويقول:
' احذروا زيغ الحكيم.. وارفوا الحق بالحق، فان الحق نورا'..!!
وكان يرى العبادة قصدا، وعدلا..
قال له يوما أحد المسلمين: علمني.
قال معاذ: وهل أنت مطيعي اذا علمتك..؟
قال الرجل: اني على طاعتك لحريص..
فقال له معاذ:
' صم وافطر..
وصلّ ونم..
واكتسب ولا تأثم.
ولا تموتنّ الا مسلما..
واياك ودعوة المظلوم'..
وكان يرى العلم معرفة، وعملا فيقول:
' تعلموا ما شئتم أن تتعلموا، فلن ينفعكم الله بالعلم جتى تعملوا'..
وكان يرى الايمان بالله وذكره، استحضارا دائما لعظمته، ومراجعة دائمة لسلوك النفس.
يقول الأسود بن هلال:
' كنا نمشي مع معاذ، فقال لنا: اجلسوا بنا نؤمن ساعة'..
ولعل سبب صمته الكثير كان راجعا الى عملية التأمل والتفكر التي لا تهدأ ولا تكف داخل نفسه.. هذا الذي كان كما قال للرسول: لا يخطو خطوة، ويظن أنه سيتبعها بأخرى.. وذلك من فرط استغراقه في ذكره ربه، واستغراقه في محاسبته نفسه..
**
وحان أجل معاذ، ودعي للقاء الله...
وفي سكرات الموت تنطلق عن اللاشعور حقيقة كل حي، وتجري على لسانه ،ان استكاع الحديث، كلمات تلخص أمره وحياته..
وفي تلك اللحظات قال معاذ كلمات عظيمة تكشف عن مؤمن عظيم.
فقد كان يحدق في السماء ويقول مناجيا ربه الرحيم:
' الهم اني كنت أخافك، لكنني اليوم أرجوك، اللهم انك تعلم أني لم أكن أحبّ الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار.. ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ونيل المزيد من العلم والايمان والطاعة'..
وبسط يمينه كأنه يصافح الموت، وراح في غيبوبته يقول:
' مرحبا بالموت..
حبيب جاء على فاقه'..
Ahmed Emad- 931
رد: رجال حول الرسول(صلى الله عليه وسلم)
عبدالله بن رواحة - يا نفس، الا تقتلي تموتي
عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مستخفيا من كفار قريش مع الوفد القادم من المدينة هناك عند مشترف مكة، يبايع اثني عشر نقيبا من الأنصار بيعة العقبة الأولى، كان هناك عبدالله بن رواحة واحدا من هؤلاء النقباء، حملة الاسلام الى المدينة، والذين مهدّت بيعتهم هذه للهجرة التي كانت بدورها منطلقا رائعا لدين الله، والاسلام..
وعندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبايع في العام التالي ثلاثة وسبعين من الأنصار أهل المدينة بيعة العقبة الثانية، كان ابن رواحة العظيم واحدا من النقباء المبايعين...
وبعد هجرة الرسول وأصحابه الى المدينة واستقرارهم بها، كان عبدالله بن رواحة من أكثر الأنصار عملا لنصرة الدين ودعم بنائه، وكان من أكثرهم يقظة لمكايد عبد الله بن أبيّ الذي كان أهل المدينة يتهيئون لتتويجه ملكا عليها قبل أن يهاجر الاسلام اليها، والذي لم تبارح حلقومه مرارة الفرصة الضائعة، فمضى يستعمل دهاءه في الكيد للاسلام. في حين مضى عبدالله بن رواحة يتعقب هذا الدهاء ببصيرةمنيرة، أفسدت على ابن أبيّ أكثر مناوراته، وشلّت حركة دهائه..!!
وكان ابن رواحة رضي الله عنه، كاتبا في بيئة لا عهد لها بالكتابة الا يسيرا..
وكان شاعرا، ينطلق الشعر من بين ثناياه عذبا قويا..
ومنذ أسلم، وضع مقدرته الشعرية في خدمة الاسلام..
وكان الرسول يحب شعره ويستزيده منه..
جلس عليه السلام يوما مع أصحابه، وأقبل عبدالله بن رواحة، فسأله النبي:
' كيف تقول الشعر اذا أردت أن نقول'..؟؟
فأجاب عبدالله:' أنظر في ذاك ثم أقول'..
ومضى على البديهة ينشد:
يا هاشم الخير ان الله فضّلكم
على البريّة فضلا ما له غير
اني تفرّست فيك الخير أعرفه
فراسة خالفتهم في الذي نظروا
ولو سألت أو استنصرت بعضهمو
في حلّ أمرك ما ردّوا ولا نصروا
فثّبت الله ما آتاك من حسن
تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
فسرّ الرسول ورضي وقال له:
' واياك، فثّبت الله'..
وحين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يطوف بالبيت في عمرة القضاء
كان ابن رواحة بين يديه ينشد من رجزه:
يا ربّ لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبّت الأقدام ان لاقينا
ان الذين قد بغوا علينا اذا أرادوا فتنة ألبنا
وكان المسلمون يرددون أنشودته الجميلة..
وحزن الشار المكثر، حين تنزل الآية الكريمة:
( والشعراء يتبعهم الغاوون)..
ولكنه يستردّ غبطة نفسه حين تنزل آية أخرى:
( الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرا، وانتصروا من بعد ما ظلموا..)
**
وحين يضطر الاسلام لخوض القتال دفاعا عن نفسه، يحمل ابن رواحة سيفه في مشاهد بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر جاعلا شعاره دوما هذه الكلمات من شعره وقصيده:
' يا نفس الا تقتلي تموتي'..
وصائحا في المشركين في كل معركة وغزاة:
خلوا بني الكفار عن سبيله
خلوا، فكل الخير في رسوله
**
وجاءت غزوة مؤتة..
وكان عبدالله بن رواحة ثالث الأمراء، كما أسلفنا في الحديث عن زيد وجفعر..
ووقف ابن رواحة رضي الله عنه والجيش يتأهب لمغادرة المدينة..
وقف ينشد ويقول:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع وتقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حرّان مجهرة بحربة تنفد الأحشاء والكبدا
حتى يقال اذا مرّوا على جدثي يا أرشد الله من غاز، وقد رشدا
أجل تلك كانت أمنيته ولا شيء سواها.. ضربة سيف أ، طعنة رمح، تنقله الى عالم الشهداء والظافرين..!!
**
وتحرّك الجيش الى مؤتة، وحين استشرف المسلمون عدوّهم حزروا جيش الروم بمائتي ألف مقاتل، اذ رأوا صفوفا لا آخر لها، وأعداد نفوق الحصر والحساب..!!
ونظر المسلمون الى عددهم القليل، فوجموا.. وقال بعضهم:
' فلنبعث الى رسول الله، نخبره بعدد عدوّنا، فامّا أن يمدّنا بالرجال، وأمّا أن يأمرنا بالزحف فنطيع'..
بيد أن ابن رواحة نهض وسط صفوفهم كالنهار، وقال لهم:
' يا قوم..
انّا والله، ما نقاتل الا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به..
فانطلقوا.. فانما هي احدى الحسنيين، النصر أو الشهادة'...
وهتف المسلمون الأقلون عددا، الأكثرون ايمانا،..
هتفوا قائلين:
'قد والله صدق ابن رواحة'..
ومضى الجيش الى غايته، يلاقي بعدده القليل مائتي ألف، حشدهم الروم للقال الضاري الرهيب...
**
والتقى الجيشان كما ذكرنا من قبل..
وسقط الأمير الأول زيد بن حارثة شهيدا مجيدا..
وتلاه الأمير الثاني جعفر بن عبد المطلب حتى أدرك الشهادة في غبطة وعظمة..
وتلاه ثالث الأمراء عبداله بن رواحة فحمل الراية من يمين جعفر.. وكان القتال قد بلغ ضراوته، وكادت القلة المسلمة تتوه في زحام العرمرم اللجب، الذي حشده هرقل..
وحين كان ابن رواحة يقاتل كجندي، كان يصول ويجول في غير تردد ولا مبالاة..
أما الآن، وقد صار أميرا للجيش ومسؤولا عن حياته، فقد بدا أمام ضراوة الروم، وكأنما مرّت به لمسة تردد وتهيّب، لكنه ما لبث أن استجاش كل قوى المخاطرة في نفسه وصاح..
أقسمت يا نفس لتنزلنّه مالي أراك تكرهين الجنّة؟؟
يا نفس الا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنّت فقد أعطيت ان تفعلي فعلهما هديت
يعني بهذا صاحبيه الذين سبقاه الى الشهادة: زيدا وجعفر..
'ان تفعلي فعلهما هديت.
انطلق يعصف بالروم عصفا..
ولا كتاب سبق بأن يكون موعده مع الجنة، لظلّ يضرب بسيفه حتى يفني الجموع المقاتلة.. لكن ساعة الرحيل قد دقّت معلنة بدء المسيرة الى الله، فصعد شهيدا..
هوى جسده، فصعدت الى الرفيق الأعلى روحه المستبسلة الطاهرة..
وتحققت أغلى أمانيه:
حتى يقال اذا مرّوا على جدثي
يا أرشد الله من غار، وقد رشدا
نعم يا ابن رواحة..
يا أرشد الله من غاز وقد رشدا..!!
**
وبينما كان القتال يدور فوق أرض البلقاء بالشام، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه في المدينة، يحادثهم ويحادثونه..
وفجأة والحديث ماض في تهلل وطمأنينة، صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسدل جفنيه قليلا.. ثم رفعهما لينطلق من عينيه بريق ساطع يبلله أسى وحنان..!!
وطوفّت نظراته الآسية وجوه أصحابه وقال:
'أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا.
ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى قتل شهيدا'..
وصمت قليلا ثم استأنف كلماته قائلا:
' ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها، حتى قتل شهيدا'..
ثم صمت قليلا وتألقت عيناه بومض متهلل، مطمئن، مشتاق. ثم قال:
' لقد رفعوا الى الجنة'..!!
أيّة رحلة مجيدة كانت..
وأي اتفاق سعيد كان..
لقد خرجوا الى الغزو معا..
وكانت خير تحيّة توجّه لذكراهم الخالدة، كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم:
' لقد رفعوا الى الجنة'..!!
عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مستخفيا من كفار قريش مع الوفد القادم من المدينة هناك عند مشترف مكة، يبايع اثني عشر نقيبا من الأنصار بيعة العقبة الأولى، كان هناك عبدالله بن رواحة واحدا من هؤلاء النقباء، حملة الاسلام الى المدينة، والذين مهدّت بيعتهم هذه للهجرة التي كانت بدورها منطلقا رائعا لدين الله، والاسلام..
وعندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبايع في العام التالي ثلاثة وسبعين من الأنصار أهل المدينة بيعة العقبة الثانية، كان ابن رواحة العظيم واحدا من النقباء المبايعين...
وبعد هجرة الرسول وأصحابه الى المدينة واستقرارهم بها، كان عبدالله بن رواحة من أكثر الأنصار عملا لنصرة الدين ودعم بنائه، وكان من أكثرهم يقظة لمكايد عبد الله بن أبيّ الذي كان أهل المدينة يتهيئون لتتويجه ملكا عليها قبل أن يهاجر الاسلام اليها، والذي لم تبارح حلقومه مرارة الفرصة الضائعة، فمضى يستعمل دهاءه في الكيد للاسلام. في حين مضى عبدالله بن رواحة يتعقب هذا الدهاء ببصيرةمنيرة، أفسدت على ابن أبيّ أكثر مناوراته، وشلّت حركة دهائه..!!
وكان ابن رواحة رضي الله عنه، كاتبا في بيئة لا عهد لها بالكتابة الا يسيرا..
وكان شاعرا، ينطلق الشعر من بين ثناياه عذبا قويا..
ومنذ أسلم، وضع مقدرته الشعرية في خدمة الاسلام..
وكان الرسول يحب شعره ويستزيده منه..
جلس عليه السلام يوما مع أصحابه، وأقبل عبدالله بن رواحة، فسأله النبي:
' كيف تقول الشعر اذا أردت أن نقول'..؟؟
فأجاب عبدالله:' أنظر في ذاك ثم أقول'..
ومضى على البديهة ينشد:
يا هاشم الخير ان الله فضّلكم
على البريّة فضلا ما له غير
اني تفرّست فيك الخير أعرفه
فراسة خالفتهم في الذي نظروا
ولو سألت أو استنصرت بعضهمو
في حلّ أمرك ما ردّوا ولا نصروا
فثّبت الله ما آتاك من حسن
تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
فسرّ الرسول ورضي وقال له:
' واياك، فثّبت الله'..
وحين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يطوف بالبيت في عمرة القضاء
كان ابن رواحة بين يديه ينشد من رجزه:
يا ربّ لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبّت الأقدام ان لاقينا
ان الذين قد بغوا علينا اذا أرادوا فتنة ألبنا
وكان المسلمون يرددون أنشودته الجميلة..
وحزن الشار المكثر، حين تنزل الآية الكريمة:
( والشعراء يتبعهم الغاوون)..
ولكنه يستردّ غبطة نفسه حين تنزل آية أخرى:
( الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرا، وانتصروا من بعد ما ظلموا..)
**
وحين يضطر الاسلام لخوض القتال دفاعا عن نفسه، يحمل ابن رواحة سيفه في مشاهد بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر جاعلا شعاره دوما هذه الكلمات من شعره وقصيده:
' يا نفس الا تقتلي تموتي'..
وصائحا في المشركين في كل معركة وغزاة:
خلوا بني الكفار عن سبيله
خلوا، فكل الخير في رسوله
**
وجاءت غزوة مؤتة..
وكان عبدالله بن رواحة ثالث الأمراء، كما أسلفنا في الحديث عن زيد وجفعر..
ووقف ابن رواحة رضي الله عنه والجيش يتأهب لمغادرة المدينة..
وقف ينشد ويقول:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع وتقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حرّان مجهرة بحربة تنفد الأحشاء والكبدا
حتى يقال اذا مرّوا على جدثي يا أرشد الله من غاز، وقد رشدا
أجل تلك كانت أمنيته ولا شيء سواها.. ضربة سيف أ، طعنة رمح، تنقله الى عالم الشهداء والظافرين..!!
**
وتحرّك الجيش الى مؤتة، وحين استشرف المسلمون عدوّهم حزروا جيش الروم بمائتي ألف مقاتل، اذ رأوا صفوفا لا آخر لها، وأعداد نفوق الحصر والحساب..!!
ونظر المسلمون الى عددهم القليل، فوجموا.. وقال بعضهم:
' فلنبعث الى رسول الله، نخبره بعدد عدوّنا، فامّا أن يمدّنا بالرجال، وأمّا أن يأمرنا بالزحف فنطيع'..
بيد أن ابن رواحة نهض وسط صفوفهم كالنهار، وقال لهم:
' يا قوم..
انّا والله، ما نقاتل الا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به..
فانطلقوا.. فانما هي احدى الحسنيين، النصر أو الشهادة'...
وهتف المسلمون الأقلون عددا، الأكثرون ايمانا،..
هتفوا قائلين:
'قد والله صدق ابن رواحة'..
ومضى الجيش الى غايته، يلاقي بعدده القليل مائتي ألف، حشدهم الروم للقال الضاري الرهيب...
**
والتقى الجيشان كما ذكرنا من قبل..
وسقط الأمير الأول زيد بن حارثة شهيدا مجيدا..
وتلاه الأمير الثاني جعفر بن عبد المطلب حتى أدرك الشهادة في غبطة وعظمة..
وتلاه ثالث الأمراء عبداله بن رواحة فحمل الراية من يمين جعفر.. وكان القتال قد بلغ ضراوته، وكادت القلة المسلمة تتوه في زحام العرمرم اللجب، الذي حشده هرقل..
وحين كان ابن رواحة يقاتل كجندي، كان يصول ويجول في غير تردد ولا مبالاة..
أما الآن، وقد صار أميرا للجيش ومسؤولا عن حياته، فقد بدا أمام ضراوة الروم، وكأنما مرّت به لمسة تردد وتهيّب، لكنه ما لبث أن استجاش كل قوى المخاطرة في نفسه وصاح..
أقسمت يا نفس لتنزلنّه مالي أراك تكرهين الجنّة؟؟
يا نفس الا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنّت فقد أعطيت ان تفعلي فعلهما هديت
يعني بهذا صاحبيه الذين سبقاه الى الشهادة: زيدا وجعفر..
'ان تفعلي فعلهما هديت.
انطلق يعصف بالروم عصفا..
ولا كتاب سبق بأن يكون موعده مع الجنة، لظلّ يضرب بسيفه حتى يفني الجموع المقاتلة.. لكن ساعة الرحيل قد دقّت معلنة بدء المسيرة الى الله، فصعد شهيدا..
هوى جسده، فصعدت الى الرفيق الأعلى روحه المستبسلة الطاهرة..
وتحققت أغلى أمانيه:
حتى يقال اذا مرّوا على جدثي
يا أرشد الله من غار، وقد رشدا
نعم يا ابن رواحة..
يا أرشد الله من غاز وقد رشدا..!!
**
وبينما كان القتال يدور فوق أرض البلقاء بالشام، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه في المدينة، يحادثهم ويحادثونه..
وفجأة والحديث ماض في تهلل وطمأنينة، صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسدل جفنيه قليلا.. ثم رفعهما لينطلق من عينيه بريق ساطع يبلله أسى وحنان..!!
وطوفّت نظراته الآسية وجوه أصحابه وقال:
'أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا.
ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى قتل شهيدا'..
وصمت قليلا ثم استأنف كلماته قائلا:
' ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها، حتى قتل شهيدا'..
ثم صمت قليلا وتألقت عيناه بومض متهلل، مطمئن، مشتاق. ثم قال:
' لقد رفعوا الى الجنة'..!!
أيّة رحلة مجيدة كانت..
وأي اتفاق سعيد كان..
لقد خرجوا الى الغزو معا..
وكانت خير تحيّة توجّه لذكراهم الخالدة، كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم:
' لقد رفعوا الى الجنة'..!!
Ahmed Emad- 931
رد: رجال حول الرسول(صلى الله عليه وسلم)
لمقداد بن عمرو - أول فرسان الاسلام
تحدث عنه أصحابه ورفاقه فقالوا:
' أول من عدا به فرسه في سبيل الله، المقداد بن الأسود..
والمقداد بن الأسود، هو بطلنا هذا المقداد بن عمرو كان قد حالف في الجاهلية الأسود بن عبد يغوث فتبناه، فصار يدعى المقداد بن الأسود، حتى اذا نزلت الآية الكريمة التي تنسخ التبني، نسب لأبيه عمرو بن سعد..
والمقداد من المبكّرين بالاسلام، وسابع سبعة جاهروا باسلامهم وأعلنوه، حاملا نصيبه من أذى قريش ونقمتها، فيس شجاعة الرجال وغبطة الحواريين..!!
ولسوف يظل موقفه يوم بدر لوحة رائعة كل من رآه لو أنه كان صاحب هذا الموقف العظيم..
يقول عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله:
' لقد شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون صاحبه، أحبّ اليّ مما في الأرض جميعا'.
في ذلك اليوم الذي بدأ عصيبا.ز حيث أقبلت قريش في بأسها الشديد واصرارها العنيد، وخيلائها وكبريائها..
في ذلك اليوم.. والمسلمون قلة، لم يمتحنوا من قبل في قتال من أجل الاسلام، فهذه أول غزوة لهم يخوضونها..
ووقف الرسول يعجم ايمان الذين معه، ويبلوا استعدادهم لملاقاة الجيش الزاحف عليهم في مشاته وفرسانه..
وراح يشاورهم في الأمر، وأصحاب الرسول يعلمون أنه حين يطلب المشورة والرأي، فانه يفعل ذلك حقا، وأنه يطلب من كل واحد حقيقة اقتناعه وحقيقة رأيه، فان قال قائلهم رأيا يغاير رأي الجماعة كلها، ويخالفها فلا حرج عليه ولا تثريب..
وخاف المقدادا أن يكون بين المسلمين من له بشأن المعركة تحفظات... وقبل أن يسبقه أحد بالحديث همّ هو بالسبق ليصوغ بكلماته القاطعة شعار المعركة، ويسهم في تشكيل ضميرها.
ولكنه قبل أن يحرك شفتيه، كان أبو بكر الصديق قد شرع يتكلم فاطمأن المقداد كثيرا.. وقال أبو بكر فأحسن، وتلاه عمر بن الخطاب فقل وأحسن..
ثم تقدم المقداد وقال:
' يا رسول الله..
امض لما أراك الله، فنحن معك..
والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى
اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون..
بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون..!!
والذي بعثك بالحق، لو سرت بنا الى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. ولنقاتلن عن يمينك وعن يسارك وبين يديك ومن خلفك حتى يفتح الله لك'.. انطلقت الكلمات كالرصاص المقذوف.. وتلل وجه رسول الله وأشرق فمه عن دعوة صالحة دعاها للمقداد.. وسرت في الحشد الصالح المؤمن حماسة الكلمات الفاضلة التي أطلقها المقداد بن عمرو والتي حددت بقوتها واقناعها نوع القول لمن أراد قولا.. وطراز الحديث لمن يريد حديثا..!!
أجل لقد بلغت كلمات المقداد غايتها من أفئدة المؤمنين، فقام سعد بن معاذ زعيم الأنصار، وقال:
' يا رسول الله..
لقد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق.. وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك.. والذي عثك بالحق.. لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا..
انا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء.. ولعل الله يريك منا ما تقر عينك.. فسر على بركة الله'..
وامتلأ قلب الرسول بشرا..
وقال لأصحابه:' سيروا وأبشروا'..
والتقى الجمعان..
وكان من فرسان المسلمين يومئذ ثلاثة لا غير: المقداد بن عمرو، ومرثد بن أبي مرثد، والزبير بن العوّام، بينما كان بقية المجاهدين مشاة، أو راكبين ابلا..
**
ان كلمات المقداد التي مرّت بنا من قبل، لا تصور شجاعته فحسب، بل تصور لنا حكمته الراجحة، وتفكيره العميق..
وكذلك كان المقداد..
كان حكيما أريبا، ولم تكن حمته تعبّر عن نفسها في مجرّد كلمات، بل هي تعبّر عن نفسها في مبادئ نافذة، وسلوك قويم مطرّد. وكانت تجاربه قوتا لحكته وريا لفطنته..
ولاه الرسول على احدى الولايات يوما، فلما رجع سأله النبي:
' كيف وجدت الامارة'..؟؟
فأجاب في صدق عظيم:
' لقد جعلتني أنظر الى نفسي كما لو كنت فوق الناس، وهم جميعا دوني..
والذي بعثك بالحق، لا اتآمرّن على اثنين بعد اليوم، أبدا'..
واذا لم تكن هذه الحكمة فماذا تكون..؟
واذا لم يكن هذا هو الحكيم فمن يكون..؟
رجل لا يخدع عن نفسه، ولا عن ضعفه..
يلي الامارة، فيغشى نفسه الزهو والصلف، ويكتشف في نفسه هذا الضعف، فيقسم ليجنّبها مظانه، وليرفض الامارة بعد تلك التجربة ويتتحاماها.. ثم يبر بقسمه فلا يكون أميرا بعد ذلك أبدا..!!
لقد كان دائب التغني بحديث سمعه من رسول الله.. هوذا:
' ان السعيد لمن جنّب الفتن'..
واذا كان قد رأى في الامارة زهوا يفتنه، أو يكاد يفتنه، فان سعادته اذن في تجنبها..
ومن مظاهر حكمته، طول أناته في الحكم على الرجال..
وهذه أيضا تعلمها من رسول الله.. فقد علمهم عليه السلام أن قلب ابن آدم أسرع تقلبا من القدر حين تغلي..
وكان المقداد يرجئ حكمه الأخير على الناس الى لحظة الموت، ليتأكد أن هذا الذي يريد أن يصدر عليه حكمه لن يتغير ولن يطرأ على حياته جديد.. وأي تغيّر، أو أي جديد بعد الموت..؟؟
وتتألق حكمته في حنكة بالغة خلال هذا الحوار الذي ينقله الينا أحد أصحابه وجلسائه، يقول:
' جلسنا الى المقداد يوما فمرّ به رجل..
فقال مخاطبا المقداد: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى اله عليه وسلم..
والله لوددناةلو أن رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت فأقبل عليه المقداد وقال:
ما يحمل أحدكم على أن يتمنى مشهدا غيّبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يصير فيه؟؟ والله، لقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام كبّهم الله عز وجل على مناخرهم في جهنم. أولا تحمدون الله الذي جنّبكم مثلا بلائهم، وأخرجكم مؤمنين بربكم ونبيكم'..
حكمة وأية حكمة..!!
انك لا تلتقي بمؤمن يحب الله ورسوله، الا وتجده يتمنى لو أنه عاش أيام الرسول ورآه..!
ولكن بصيرة المقداد الحاذق الحكيم تكشف البعد المفقود في هذه الأمنية..
ألم يكن من المحتمل لهذا الذي يتمنى لو أنه عاش تلك الأيام.. أن يكون من أصحاب الجحيم..
ألم يكون من المحتمل أن يكفر مع الكافرين.
وأليس من الخير اذن أن يحمد الله الذي رزقه الحياة في عصور استقرّ فيها الاسلام، فأخذه صفوا عفوا..
هذه نظرة المقداد، تتألق حكمة وفطنة.. وفي كل مواقفه، وتجاربه، وكلماته، كان الأريب الحكيم..
**
وكان حب المقداد للاسلام عظيما..
وكان الى جانب ذلك، واعيا حكيما..
والحب حين يكون عظيما وحكيما، فانه يجعل من صاحبه انسانا عليّا، لا يجد غبطة هذا الحب في ذاته.. بل في مسؤولياته..
والمقداد بن عمرو من هذا الطراز..
فحبه الرسول. ملأ قلبه وشعوره بمسؤولياته عن سلامة الرسول، ولم يكن تسمع في المدينة فزعة، الا ويكون المقداد في مثل لمح البصر واقفا على باب رسول الله ممتطيا صهوة فرسه، ممتشقا مهنّده وحسامه..!!
وحبه للاسلام، ملأ قلبه بمسؤولياته عن حماية الاسلام.. ليس فقط من كيد أعدائه.. بل ومن خطأ أصدقائه..
خرج يوما في سريّة، تمكن العدو فيها من حصارهم، فأصدر أمير السرية أمره بألا يرعى أحد دابته.. ولكن أحد المسلمين لم يحط بالأمر خبرا، فخالفه، فتلقى من الأمير عقوبة أكثر مما يستحق، أ، لعله لا يستحقها على الاطلاق..
فمر المقداد بالرجل يبكي ويصيح، فسأله، فأنبأه ما حدث
فأخذ المقداد بيمينه، ومضيا صوب الأمير، وراح المقداد يناقشه حتى كشف له خطأه وقال له:
' والآن أقده من نفسك..
ومكّنه من القصاص'..!!
وأذعن الأمير.. بيد أن الجندي عفا وصفح، وانتشى المقداد بعظمة الموقف، وبعظمة الدين الذي أفاء عليهم هذه العزة، فراح يقول وكأنه يغني:
' لأموتنّ، والاسلام عزيز'..!!
أجل تلك كانت أمنيته، أن يموت والاسلام عزيز.. ولقد ثابر مع المثابرين على تحقيق هذه الأمنية مثابرة باهرة جعلته أهلا لأن يقول له الرسول عليه الصلاة والسلام:
'ان الله أمرني بحبك..
وأنبأني أنه يحبك'..
تحدث عنه أصحابه ورفاقه فقالوا:
' أول من عدا به فرسه في سبيل الله، المقداد بن الأسود..
والمقداد بن الأسود، هو بطلنا هذا المقداد بن عمرو كان قد حالف في الجاهلية الأسود بن عبد يغوث فتبناه، فصار يدعى المقداد بن الأسود، حتى اذا نزلت الآية الكريمة التي تنسخ التبني، نسب لأبيه عمرو بن سعد..
والمقداد من المبكّرين بالاسلام، وسابع سبعة جاهروا باسلامهم وأعلنوه، حاملا نصيبه من أذى قريش ونقمتها، فيس شجاعة الرجال وغبطة الحواريين..!!
ولسوف يظل موقفه يوم بدر لوحة رائعة كل من رآه لو أنه كان صاحب هذا الموقف العظيم..
يقول عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله:
' لقد شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون صاحبه، أحبّ اليّ مما في الأرض جميعا'.
في ذلك اليوم الذي بدأ عصيبا.ز حيث أقبلت قريش في بأسها الشديد واصرارها العنيد، وخيلائها وكبريائها..
في ذلك اليوم.. والمسلمون قلة، لم يمتحنوا من قبل في قتال من أجل الاسلام، فهذه أول غزوة لهم يخوضونها..
ووقف الرسول يعجم ايمان الذين معه، ويبلوا استعدادهم لملاقاة الجيش الزاحف عليهم في مشاته وفرسانه..
وراح يشاورهم في الأمر، وأصحاب الرسول يعلمون أنه حين يطلب المشورة والرأي، فانه يفعل ذلك حقا، وأنه يطلب من كل واحد حقيقة اقتناعه وحقيقة رأيه، فان قال قائلهم رأيا يغاير رأي الجماعة كلها، ويخالفها فلا حرج عليه ولا تثريب..
وخاف المقدادا أن يكون بين المسلمين من له بشأن المعركة تحفظات... وقبل أن يسبقه أحد بالحديث همّ هو بالسبق ليصوغ بكلماته القاطعة شعار المعركة، ويسهم في تشكيل ضميرها.
ولكنه قبل أن يحرك شفتيه، كان أبو بكر الصديق قد شرع يتكلم فاطمأن المقداد كثيرا.. وقال أبو بكر فأحسن، وتلاه عمر بن الخطاب فقل وأحسن..
ثم تقدم المقداد وقال:
' يا رسول الله..
امض لما أراك الله، فنحن معك..
والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى
اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون..
بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون..!!
والذي بعثك بالحق، لو سرت بنا الى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. ولنقاتلن عن يمينك وعن يسارك وبين يديك ومن خلفك حتى يفتح الله لك'.. انطلقت الكلمات كالرصاص المقذوف.. وتلل وجه رسول الله وأشرق فمه عن دعوة صالحة دعاها للمقداد.. وسرت في الحشد الصالح المؤمن حماسة الكلمات الفاضلة التي أطلقها المقداد بن عمرو والتي حددت بقوتها واقناعها نوع القول لمن أراد قولا.. وطراز الحديث لمن يريد حديثا..!!
أجل لقد بلغت كلمات المقداد غايتها من أفئدة المؤمنين، فقام سعد بن معاذ زعيم الأنصار، وقال:
' يا رسول الله..
لقد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق.. وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك.. والذي عثك بالحق.. لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا..
انا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء.. ولعل الله يريك منا ما تقر عينك.. فسر على بركة الله'..
وامتلأ قلب الرسول بشرا..
وقال لأصحابه:' سيروا وأبشروا'..
والتقى الجمعان..
وكان من فرسان المسلمين يومئذ ثلاثة لا غير: المقداد بن عمرو، ومرثد بن أبي مرثد، والزبير بن العوّام، بينما كان بقية المجاهدين مشاة، أو راكبين ابلا..
**
ان كلمات المقداد التي مرّت بنا من قبل، لا تصور شجاعته فحسب، بل تصور لنا حكمته الراجحة، وتفكيره العميق..
وكذلك كان المقداد..
كان حكيما أريبا، ولم تكن حمته تعبّر عن نفسها في مجرّد كلمات، بل هي تعبّر عن نفسها في مبادئ نافذة، وسلوك قويم مطرّد. وكانت تجاربه قوتا لحكته وريا لفطنته..
ولاه الرسول على احدى الولايات يوما، فلما رجع سأله النبي:
' كيف وجدت الامارة'..؟؟
فأجاب في صدق عظيم:
' لقد جعلتني أنظر الى نفسي كما لو كنت فوق الناس، وهم جميعا دوني..
والذي بعثك بالحق، لا اتآمرّن على اثنين بعد اليوم، أبدا'..
واذا لم تكن هذه الحكمة فماذا تكون..؟
واذا لم يكن هذا هو الحكيم فمن يكون..؟
رجل لا يخدع عن نفسه، ولا عن ضعفه..
يلي الامارة، فيغشى نفسه الزهو والصلف، ويكتشف في نفسه هذا الضعف، فيقسم ليجنّبها مظانه، وليرفض الامارة بعد تلك التجربة ويتتحاماها.. ثم يبر بقسمه فلا يكون أميرا بعد ذلك أبدا..!!
لقد كان دائب التغني بحديث سمعه من رسول الله.. هوذا:
' ان السعيد لمن جنّب الفتن'..
واذا كان قد رأى في الامارة زهوا يفتنه، أو يكاد يفتنه، فان سعادته اذن في تجنبها..
ومن مظاهر حكمته، طول أناته في الحكم على الرجال..
وهذه أيضا تعلمها من رسول الله.. فقد علمهم عليه السلام أن قلب ابن آدم أسرع تقلبا من القدر حين تغلي..
وكان المقداد يرجئ حكمه الأخير على الناس الى لحظة الموت، ليتأكد أن هذا الذي يريد أن يصدر عليه حكمه لن يتغير ولن يطرأ على حياته جديد.. وأي تغيّر، أو أي جديد بعد الموت..؟؟
وتتألق حكمته في حنكة بالغة خلال هذا الحوار الذي ينقله الينا أحد أصحابه وجلسائه، يقول:
' جلسنا الى المقداد يوما فمرّ به رجل..
فقال مخاطبا المقداد: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى اله عليه وسلم..
والله لوددناةلو أن رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت فأقبل عليه المقداد وقال:
ما يحمل أحدكم على أن يتمنى مشهدا غيّبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يصير فيه؟؟ والله، لقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام كبّهم الله عز وجل على مناخرهم في جهنم. أولا تحمدون الله الذي جنّبكم مثلا بلائهم، وأخرجكم مؤمنين بربكم ونبيكم'..
حكمة وأية حكمة..!!
انك لا تلتقي بمؤمن يحب الله ورسوله، الا وتجده يتمنى لو أنه عاش أيام الرسول ورآه..!
ولكن بصيرة المقداد الحاذق الحكيم تكشف البعد المفقود في هذه الأمنية..
ألم يكن من المحتمل لهذا الذي يتمنى لو أنه عاش تلك الأيام.. أن يكون من أصحاب الجحيم..
ألم يكون من المحتمل أن يكفر مع الكافرين.
وأليس من الخير اذن أن يحمد الله الذي رزقه الحياة في عصور استقرّ فيها الاسلام، فأخذه صفوا عفوا..
هذه نظرة المقداد، تتألق حكمة وفطنة.. وفي كل مواقفه، وتجاربه، وكلماته، كان الأريب الحكيم..
**
وكان حب المقداد للاسلام عظيما..
وكان الى جانب ذلك، واعيا حكيما..
والحب حين يكون عظيما وحكيما، فانه يجعل من صاحبه انسانا عليّا، لا يجد غبطة هذا الحب في ذاته.. بل في مسؤولياته..
والمقداد بن عمرو من هذا الطراز..
فحبه الرسول. ملأ قلبه وشعوره بمسؤولياته عن سلامة الرسول، ولم يكن تسمع في المدينة فزعة، الا ويكون المقداد في مثل لمح البصر واقفا على باب رسول الله ممتطيا صهوة فرسه، ممتشقا مهنّده وحسامه..!!
وحبه للاسلام، ملأ قلبه بمسؤولياته عن حماية الاسلام.. ليس فقط من كيد أعدائه.. بل ومن خطأ أصدقائه..
خرج يوما في سريّة، تمكن العدو فيها من حصارهم، فأصدر أمير السرية أمره بألا يرعى أحد دابته.. ولكن أحد المسلمين لم يحط بالأمر خبرا، فخالفه، فتلقى من الأمير عقوبة أكثر مما يستحق، أ، لعله لا يستحقها على الاطلاق..
فمر المقداد بالرجل يبكي ويصيح، فسأله، فأنبأه ما حدث
فأخذ المقداد بيمينه، ومضيا صوب الأمير، وراح المقداد يناقشه حتى كشف له خطأه وقال له:
' والآن أقده من نفسك..
ومكّنه من القصاص'..!!
وأذعن الأمير.. بيد أن الجندي عفا وصفح، وانتشى المقداد بعظمة الموقف، وبعظمة الدين الذي أفاء عليهم هذه العزة، فراح يقول وكأنه يغني:
' لأموتنّ، والاسلام عزيز'..!!
أجل تلك كانت أمنيته، أن يموت والاسلام عزيز.. ولقد ثابر مع المثابرين على تحقيق هذه الأمنية مثابرة باهرة جعلته أهلا لأن يقول له الرسول عليه الصلاة والسلام:
'ان الله أمرني بحبك..
وأنبأني أنه يحبك'..
Ahmed Emad- 931
رد: رجال حول الرسول(صلى الله عليه وسلم)
عمرو بن الجموح - أريد أن أخطر بعرجتي في الجنة
انه صهر عبدالله بن حرام، اذ كان زوجا لأخته هند بن عمرو..
وكان ابن الجموح واحدا من زعماء المدينة، وسيدا من سادات بني سلمة..
سبقه الى الاسلام ابنه معاذ بن عمرو الذي كان أحد الأنصار السبعين، أصحاب البيعة الثانية..
وكان معاذ بن عمرو وصديقه معاذ بن جبل يدعوان للاسلام بين أهل المدينة في حماسة الشباب المؤمن الجريء..
وكان من عادة الناس هناك أن بتخذ الأشراف من بيوتهم أصناما رمزية غير تلك الأصنام الكبيرة المنصوبة في محافلها، والتي تؤمّها جموع الناس..
وعمرو بن الجموح مع صديقه معاذ بن جبل على أن يجعلا من صنم عمرو بن جموح سخرية ولعبا..
فكانا يدلجان عليه ليلا، ثم يحملانه ويطرحانه في حفرة يطرح الناس فيه فضلاتهم..
ويصيح عمرو فلا يجد منافا في مكانه، ويبحث عنه حتى يجده طريح تلك الحفرة.. فيثور ويقول:
ويلكم من عدا على آلهتنا الليلة..!؟
ثم يغسله ويطهره ويطيّبه..
فاذا جاء ليل جديد، صنع المعاذان معاذ بن عمرو ومعاذ بن جبل بالصنم مثل ما يفعلان به كل ليلة.
حتى اذا سئم عمرو جاء بسيفه ووضعه في عنق مناف وقال له: ان كان فيك خير فدافع عن نفسك..!!
فلما اصبح فلم يجده مكانه.. بل وجده في الحفرة ذاتها طريحا، بيد أن هذه المرة لم يكن في حفرته وحيدا، بل كان مشدودا مع كلب ميت في حبل وثيق.
واذا هو في غضبه، وأسفه ودهشه، اقترب منه بعض أشراف المدينة الذين كانوا قد سبقوا الى الاسلام.. وراحوا، وهم يشيرون بأصابعهم الى الصنم المنكّس المقرون بكلب ميت، يخاطبون في عمرو بن الجموح عقله وقلبه ورشده، محدثينه عن الاله الحق، العلي الأعلى، الذي ليس كمثله شيء.
وعن محمد الصادق الأمين، الذي جاء الحياة ليعطي لا ليأخذ.. ليهدي، لا ليضل..
وعن الاسلام، الذي جاء يحرر البشر من الأعلال، جميع الأغلل، وجاء يحيى فيهم روح الله وينشر في قلوبهم نوره.
وفي لحظات وجد عمرو نفسه ومصيره..
وفي لحظات ذهب فطهر ثوبه، وبدنه.. ثم تطيّب وتأنق، وتألق، وذهب عالي الجبهة مشرق النفس، ليبايع خاتم المرسلين، وليأخذ مكانه مع المؤمنين.
**
قد يسأل سائل نفسه، كيف كان رجال من أمثال عمرو بن الجموح.. وهم زعماء قومهم وأشراف.. كيف كانوا يؤمنون بأصنام هازلة كل هذا الايمان..؟
وكيف لم تعصمهم عقولهم عن مثل هذا الهراء.. وكيف نعدّهم اليوم، حتى مع اسلامهم وتضحياتهم، من عظماء الرجال..؟
ومثل هذا السؤال يبدو ايراده سهلا في أيامنا هذه حيث لا نجد طفلا يسيغ عقله أن ينصب في بيته خشبة ثم يعبدها..
لكن في أيام خلت، كانت عواطف البشر تتسع لمثل هذا الصنيع دون أن يكون لذكائهم ونبوغهم حيلة تجاه تلك التقاليد..!!
وحسبنا لهذا مثلا أثينا..
أثينا في عصر باركليز وفيتاغورس وسقراط..
أثينا التي كانت قد بلغت رقيّا فكريا يبهر الأباب، كان أهلها جميعا: فلاسفة، وحكاما، وجماهير يؤمنون بأصنام منحوتة تناهي في البلاهة والسخرية!!
ذلك أن الوجدان الديني في تلك العصور البعيدة، لم يكن يسير في خط مواز للتفوق العقلي...
**
أسلم عمرو بن الجموح قلبه، وحياته لله رب العالمين، وعلى الرغم من أنه كان مفطورا على الجود والسخاء، فان الاسلام زاد جوده مضاء، فوضع كل ماله في خدمة دينه واخوانه..
سأل الرسول عليه الصلاة والسلام جماعة من بني سلمة قبيلة عمرو بن الجموح فقال:
من سيّدكم يا بني سلمة..؟
قالوا: الجدّ بن قيس، على بخل فيه..
فقال عليه الصلاة والسلام:
وأي داء أدوى من البخل!!
بل سيّدكم الجعد الأبيض، عمرو بن الجموح..
فكانت هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تكريما لابن الجموح، أي تكريم..!
وفي هذا قال شاعر الأنصار:
فسوّد عمرو بن الجموح لجوده
وحق لعمرو بالنّدى أن يسوّدا
اذا جاءه السؤال أذهب ماله
وقال: خذوه، انه عائد غدا
وبمثل ما كان عمرو بن الجموح يجود بماله في سبيل الله، أراد أن يجود بروحه وبحياته..
ولكن كيف السبيل؟؟
ان في ساقه عرجا يجعله غير صالح للاشتراك في قتال.
وانه له أربعة أولاد، كلهم مسلمون، وكلهم رجال كالأسود، كانوا يخرجون مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزو، ويثابرون على فريضة الجهاد..
ولقد حاول عمرو أن يخرج في غزوة بدر فتوسّل أبناؤه الى النبي صلى الله عليه وسلم كي يقنعه بعدم الخروج، أ، يأمره به اذا هو لم يقتنع..
وفعلا، أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الاسلام يعفيه من الجهاد كفريضة، وذلك لعجزه الماثل في عرجه الشديد..
بيد أنه راح يلحّ ويرجو.. فأمره الرسول بالبقاء في المدينة.
**
وجاءت غزوة أحد فذهب عمرو الى النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل اليه أن يأذن له وقال له:
' يا رسول الله انّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك الى الجهاد..
ووالله اني لأرجو أن، أخطر، بعرجتي هذه في الجنة'..
وأمام اصراره العظيم أذن له النبي عليه السلام بالخروج، فأخذ سلاحه، وانطلق يخطر في حبور وغبطة، ودعا ربه بصوت ضارع:
' اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني الى أهلي'.
والتقى الجمعان يوم أحد..
وانطلق عمرو بن الجموح وأبناؤه الأربعة يضربون بسيوفهم جيوش الشرك والظلام..
كان عمرو بن الجموح يخطر وسط المعمعة الصاحبة، ومع كل خطرة يقطف سيفه رأسا من رؤوس الوثنية..
كان يضرب الضربة بيمينه، ثم يلتفت حواليه في الأفق الأعلى، كأنه يتعجل قدوم الملاك الذي سيقبض روحه، ثم يصحبها الى الجنة..
أجل.. فلقد سأل ربه الشهادة، وهو واثق أن الله سبحانه وتعالى قد استجاب له..
وهو مغرم بأن يخطر بساقه العرجاء في الجنة ليعلم أهلها أن محمدا رسول اله صلى الله عليه وسلم، يعرف كيف يختار الأصحاب، وكيف يربّي الرجال..!!
**
وجاء ما كان ينتظر.
ضربةسيف أومضت، معلنة ساعة الزفاف..
زفاف شهيد مجيد الى جنات الخلد، وفردوس الرحمن..!!
**
واذ كان المسلمون يدفنون شهداءهم قال الرسول عليه الصلاة والسلام أمره الذي سمعناه من قبل:
' انظروا، فاجعلوا عبدالله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد، فانهما كانا في الدنيا متحابين متصافيين'..!!
**
ودفن الحبيبان الشهيدان الصديقان في قبر واحد، تحت ثرى الأرض التي تلقت جثمانيهما الطاهرين، بعد أن شهدت بطولتهما الخارقة.
وبعد مضي ست وأربعين سنة على دفنهما، نزل سيل شديد غطّى أرض القبور، بسبب عين من الماء أجراها هناك معاوية، فسارع المسلمون الى نقل رفات الشهداء، فاذا هم كما وصفهم الذين اشتركوا في نقل رفاتهم:
' ليّنة أجسادهم..
تتثنى أطرافهم'..!
وكان جابر بن عبدالله لا يزال حيا، فذهب مع أهله لينقل رفات أبيه عبدالله بن عمرو بن حرام، ورفات زوج عمته عمرو بن الجموح..
فوجدهما في قبرهما، كأنهما نائمان.. لم تأكل الأرض منهما شيئا، ولم تفارق شفاههما بسمة الرضا والغبطة التي كانت يوم دعيا للقاء الله..
أتعجبون..؟
كلا، لا تعجبوا..
فان الأرواح الكبيرة، التقية، النقية، التي سيطرت على مصيرها.. تترك في الأجساد التي كانت موئلا لها، قدرا من المناعة يدرأ عنها عوامل التحلل، وسطوة التراب..
انه صهر عبدالله بن حرام، اذ كان زوجا لأخته هند بن عمرو..
وكان ابن الجموح واحدا من زعماء المدينة، وسيدا من سادات بني سلمة..
سبقه الى الاسلام ابنه معاذ بن عمرو الذي كان أحد الأنصار السبعين، أصحاب البيعة الثانية..
وكان معاذ بن عمرو وصديقه معاذ بن جبل يدعوان للاسلام بين أهل المدينة في حماسة الشباب المؤمن الجريء..
وكان من عادة الناس هناك أن بتخذ الأشراف من بيوتهم أصناما رمزية غير تلك الأصنام الكبيرة المنصوبة في محافلها، والتي تؤمّها جموع الناس..
وعمرو بن الجموح مع صديقه معاذ بن جبل على أن يجعلا من صنم عمرو بن جموح سخرية ولعبا..
فكانا يدلجان عليه ليلا، ثم يحملانه ويطرحانه في حفرة يطرح الناس فيه فضلاتهم..
ويصيح عمرو فلا يجد منافا في مكانه، ويبحث عنه حتى يجده طريح تلك الحفرة.. فيثور ويقول:
ويلكم من عدا على آلهتنا الليلة..!؟
ثم يغسله ويطهره ويطيّبه..
فاذا جاء ليل جديد، صنع المعاذان معاذ بن عمرو ومعاذ بن جبل بالصنم مثل ما يفعلان به كل ليلة.
حتى اذا سئم عمرو جاء بسيفه ووضعه في عنق مناف وقال له: ان كان فيك خير فدافع عن نفسك..!!
فلما اصبح فلم يجده مكانه.. بل وجده في الحفرة ذاتها طريحا، بيد أن هذه المرة لم يكن في حفرته وحيدا، بل كان مشدودا مع كلب ميت في حبل وثيق.
واذا هو في غضبه، وأسفه ودهشه، اقترب منه بعض أشراف المدينة الذين كانوا قد سبقوا الى الاسلام.. وراحوا، وهم يشيرون بأصابعهم الى الصنم المنكّس المقرون بكلب ميت، يخاطبون في عمرو بن الجموح عقله وقلبه ورشده، محدثينه عن الاله الحق، العلي الأعلى، الذي ليس كمثله شيء.
وعن محمد الصادق الأمين، الذي جاء الحياة ليعطي لا ليأخذ.. ليهدي، لا ليضل..
وعن الاسلام، الذي جاء يحرر البشر من الأعلال، جميع الأغلل، وجاء يحيى فيهم روح الله وينشر في قلوبهم نوره.
وفي لحظات وجد عمرو نفسه ومصيره..
وفي لحظات ذهب فطهر ثوبه، وبدنه.. ثم تطيّب وتأنق، وتألق، وذهب عالي الجبهة مشرق النفس، ليبايع خاتم المرسلين، وليأخذ مكانه مع المؤمنين.
**
قد يسأل سائل نفسه، كيف كان رجال من أمثال عمرو بن الجموح.. وهم زعماء قومهم وأشراف.. كيف كانوا يؤمنون بأصنام هازلة كل هذا الايمان..؟
وكيف لم تعصمهم عقولهم عن مثل هذا الهراء.. وكيف نعدّهم اليوم، حتى مع اسلامهم وتضحياتهم، من عظماء الرجال..؟
ومثل هذا السؤال يبدو ايراده سهلا في أيامنا هذه حيث لا نجد طفلا يسيغ عقله أن ينصب في بيته خشبة ثم يعبدها..
لكن في أيام خلت، كانت عواطف البشر تتسع لمثل هذا الصنيع دون أن يكون لذكائهم ونبوغهم حيلة تجاه تلك التقاليد..!!
وحسبنا لهذا مثلا أثينا..
أثينا في عصر باركليز وفيتاغورس وسقراط..
أثينا التي كانت قد بلغت رقيّا فكريا يبهر الأباب، كان أهلها جميعا: فلاسفة، وحكاما، وجماهير يؤمنون بأصنام منحوتة تناهي في البلاهة والسخرية!!
ذلك أن الوجدان الديني في تلك العصور البعيدة، لم يكن يسير في خط مواز للتفوق العقلي...
**
أسلم عمرو بن الجموح قلبه، وحياته لله رب العالمين، وعلى الرغم من أنه كان مفطورا على الجود والسخاء، فان الاسلام زاد جوده مضاء، فوضع كل ماله في خدمة دينه واخوانه..
سأل الرسول عليه الصلاة والسلام جماعة من بني سلمة قبيلة عمرو بن الجموح فقال:
من سيّدكم يا بني سلمة..؟
قالوا: الجدّ بن قيس، على بخل فيه..
فقال عليه الصلاة والسلام:
وأي داء أدوى من البخل!!
بل سيّدكم الجعد الأبيض، عمرو بن الجموح..
فكانت هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تكريما لابن الجموح، أي تكريم..!
وفي هذا قال شاعر الأنصار:
فسوّد عمرو بن الجموح لجوده
وحق لعمرو بالنّدى أن يسوّدا
اذا جاءه السؤال أذهب ماله
وقال: خذوه، انه عائد غدا
وبمثل ما كان عمرو بن الجموح يجود بماله في سبيل الله، أراد أن يجود بروحه وبحياته..
ولكن كيف السبيل؟؟
ان في ساقه عرجا يجعله غير صالح للاشتراك في قتال.
وانه له أربعة أولاد، كلهم مسلمون، وكلهم رجال كالأسود، كانوا يخرجون مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزو، ويثابرون على فريضة الجهاد..
ولقد حاول عمرو أن يخرج في غزوة بدر فتوسّل أبناؤه الى النبي صلى الله عليه وسلم كي يقنعه بعدم الخروج، أ، يأمره به اذا هو لم يقتنع..
وفعلا، أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الاسلام يعفيه من الجهاد كفريضة، وذلك لعجزه الماثل في عرجه الشديد..
بيد أنه راح يلحّ ويرجو.. فأمره الرسول بالبقاء في المدينة.
**
وجاءت غزوة أحد فذهب عمرو الى النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل اليه أن يأذن له وقال له:
' يا رسول الله انّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك الى الجهاد..
ووالله اني لأرجو أن، أخطر، بعرجتي هذه في الجنة'..
وأمام اصراره العظيم أذن له النبي عليه السلام بالخروج، فأخذ سلاحه، وانطلق يخطر في حبور وغبطة، ودعا ربه بصوت ضارع:
' اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني الى أهلي'.
والتقى الجمعان يوم أحد..
وانطلق عمرو بن الجموح وأبناؤه الأربعة يضربون بسيوفهم جيوش الشرك والظلام..
كان عمرو بن الجموح يخطر وسط المعمعة الصاحبة، ومع كل خطرة يقطف سيفه رأسا من رؤوس الوثنية..
كان يضرب الضربة بيمينه، ثم يلتفت حواليه في الأفق الأعلى، كأنه يتعجل قدوم الملاك الذي سيقبض روحه، ثم يصحبها الى الجنة..
أجل.. فلقد سأل ربه الشهادة، وهو واثق أن الله سبحانه وتعالى قد استجاب له..
وهو مغرم بأن يخطر بساقه العرجاء في الجنة ليعلم أهلها أن محمدا رسول اله صلى الله عليه وسلم، يعرف كيف يختار الأصحاب، وكيف يربّي الرجال..!!
**
وجاء ما كان ينتظر.
ضربةسيف أومضت، معلنة ساعة الزفاف..
زفاف شهيد مجيد الى جنات الخلد، وفردوس الرحمن..!!
**
واذ كان المسلمون يدفنون شهداءهم قال الرسول عليه الصلاة والسلام أمره الذي سمعناه من قبل:
' انظروا، فاجعلوا عبدالله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد، فانهما كانا في الدنيا متحابين متصافيين'..!!
**
ودفن الحبيبان الشهيدان الصديقان في قبر واحد، تحت ثرى الأرض التي تلقت جثمانيهما الطاهرين، بعد أن شهدت بطولتهما الخارقة.
وبعد مضي ست وأربعين سنة على دفنهما، نزل سيل شديد غطّى أرض القبور، بسبب عين من الماء أجراها هناك معاوية، فسارع المسلمون الى نقل رفات الشهداء، فاذا هم كما وصفهم الذين اشتركوا في نقل رفاتهم:
' ليّنة أجسادهم..
تتثنى أطرافهم'..!
وكان جابر بن عبدالله لا يزال حيا، فذهب مع أهله لينقل رفات أبيه عبدالله بن عمرو بن حرام، ورفات زوج عمته عمرو بن الجموح..
فوجدهما في قبرهما، كأنهما نائمان.. لم تأكل الأرض منهما شيئا، ولم تفارق شفاههما بسمة الرضا والغبطة التي كانت يوم دعيا للقاء الله..
أتعجبون..؟
كلا، لا تعجبوا..
فان الأرواح الكبيرة، التقية، النقية، التي سيطرت على مصيرها.. تترك في الأجساد التي كانت موئلا لها، قدرا من المناعة يدرأ عنها عوامل التحلل، وسطوة التراب..
Ahmed Emad- 931
رد: رجال حول الرسول(صلى الله عليه وسلم)
ربنا يجعله فى ميزانك يارب
موضوع اكثر من رائع
مشكوور يا عمدة
موضوع اكثر من رائع
مشكوور يا عمدة
Alia El Beheiry- وسام العطاء
- الدوله :
المزاج :
96
5316
2
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
مواضيع مماثلة
» نساء حول الرسول(صلى الله عليه وسلم)
» سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الدخلة
» خمسين معلومة عن الرسول صلي الله عليه وسلم
» رواية دعوته صلى الله عليه وسلم لضماد رضى الله عنه
» يوم كامل بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم
» سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الدخلة
» خمسين معلومة عن الرسول صلي الله عليه وسلم
» رواية دعوته صلى الله عليه وسلم لضماد رضى الله عنه
» يوم كامل بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم
صفحة 2 من اصل 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى